الأردن وقواعد اللعبة السورية
يواجه الأردن تهديداً استراتيجياً جديداً على الحدود الشمالية، وصفه قادة عسكريون بالحرب الحقيقية، مع تجّار المخدّرات الذين تحولوا من مجرد مافيات صغيرة ومجموعات منذ أعوام إلى شبكة عسكرية وأمنية تستند إلى استراتيجية طويلة المدى في تحويل الحدود الشمالية إلى منطقة حيوية لتجارة المخدّرات، والهدف ليس الأردن، بل دول الخليج العربي التي تمثل، وفقاً لهذه المصالح الإقليمية، سوقاً كبيرة.
أدت العمليات والاشتباكات المستمرّة بين ضباط الجيش وعصابات التهريب إلى استشهاد عسكريين في بداية العام الحالي وإصابة آخرين، ولم تتوقف بعدها محاولات التهريب ولا الاشتباكات، بالرغم من الجهود الدبلوماسية الأردنية مع النظام السوري، إذ وصل السياسيون الأردنيون إلى قناعة بأنّ المسألة ليست قراراً سياسياً في دمشق بقدر ما تمثّل شبكة إقليمية يُعتقد، أردنياً، أنّ هناك قواتاً سورية مشتركة فيها، ومنها شبكة قريبة من المليشيات المدعومة من إيران.
أخطر ما في الأمر أنّ التقارير العسكرية تؤكد أنّ هنالك تموضعاً وقواعد عسكرية يجري إنشاؤها بالقرب من الحدود الشمالية للمليشيات الإيرانية. ومعروف أنّ جزءاً من عمليات تمويل هذه العمليات الإقليمية هو من خلال تهريب المخدّرات التي تشكل مصدر دخل كبير لهذه القوى الإقليمية، والأهم أنّ هنالك احترافاً كبيراً في عملية التهريب بما في ذلك استخدام طائرات من دون طيّار!
ردّ الفعل الأردني عسكرياً وأمنياً تمثّل في تعزيز العمليات العسكرية على الحدود الشمالية، والتصريح بتغيير قواعد الاشتباك، مع تعزيز عمليات الأمن في مواجهة المهرّبين المحليين، إذ شهدت الأسابيع الماضية عملياتٍ نوعية أدت إلى اعتقال أشخاصٍ عديدين، والإمساك بكميات كبيرة من المخدّرات.
التحوّل الذي يحدث على الحدود الشمالية يتعدّى قواعد الاشتباك إلى قواعد اللعبة الإقليمية؛ فمن الواضح أنّ المسألة طويلة المدى، وأنّ ما يحدث لعبة متعدّدة الأطراف ومصالح تجارية ضخمة مربوطة بتحوّلات في الجوار السوري، ما يعني أنّ هناك دواعي استراتيجية لبناء مقاربة جديدة بعدما انهارت المعادلات التي كانت تمثّل جدار حماية للحدود الأردنية خلال الأعوام الماضية، بالتحديد منذ الأحداث في سورية قبل قرابة عقد.
تمكّن الأردن في الأعوام السابقة من ترسيم استراتيجيات ناجحة، أطلق عليها أردنياً "نظرية الوسادات"، من خلال دعم فصائل مسلحة معارضة، مثل جيش العشائر وإقامة علاقات جيدة ومفيدة مع الجيش الحرّ والعشائر السورية في المناطق الجنوبية، مع الإبقاء على القنوات الخلفية مع النظام السوري. لذلك نجح الأردن في الحدّ من التحدّيات والمخاطر القادمة من الشمال، بل أصرّ المسؤولون الأردنيون على بقاء الجيش السوري النظامي على الحدود المشتركة، وهو ما جرى فعلاً، وبقيت الحدود الشمالية ضمن نطاق السيطرة.
وبالرغم من الانتشار والتمدّد لتنظيم داعش وجبهة النصرة حينذاك، لم تحدث إلّا عملية واحدة ناجحة في الركبان، من "داعش"، لكنّ المعادلة تغيرت مع تراجع المعارضة المسلحة وعودة السيطرة للجيش السوري، المدعوم من الروس والإيرانيين، إلى تلك المناطق، وكان القرار الأردني بتفكيك الفصائل المسلحة، وجرى الاتفاق مع الروس على الالتزام بمتطلبات الأمن الأردني، بما وُصف حينها باتفاق جنتلمان بين القيادتين الأردنية والروسية.
كان "العامل الإسرائيلي" مهماً، في المراحل السابقة، على الصعيد الإقليمي، استناداً إلى فرضية أنّ إسرائيل لن تسمح بوجود إيران في المناطق الجنوبية القريبة منها، لكن من الواضح أنّ المعادلات السابقة انهارت، وأنّه مع الحرب الروسية - الأوكرانية وانسحاب القوات الروسية من سورية، وقبل ذلك الانسحاب الأميركي، لم تعد هنالك ضماناتٌ ولا نظرياتٌ صلبة لدعم الأمن الوطني الأردني، وبات الأفق القادم مفتوحاً على احتمال قوي وسيناريو رئيس يتمثل بتعزيز هذا النوع من النشاط الخطير على الحدود الشمالية.
ويتوقع خبراء أن تزداد وتيرة التهريب مع فصل الشتاء واستثمار الظروف الجوية، وهو ما يرفع من خطورة التهديد القادم، ما يعني أنّ على الأردن بناء تصوّرات استراتيجية جديدة تتجاوز الجانب العسكري إلى خيارات سياسية، من بينها عقد مؤتمر للأمن الإقليمي، ووضع دول الخليج بصورة ما يحدث لا سيما المسؤوليات والمصالح والتهديدات المشتركة. ومن الضروري فتح حوار استراتيجي مع الجانب الإيراني الذي أصبح لاعباً رئيسياً على الحدود الشمالية لا يمكن تجاهله.