الأزمة الأوكرانية في مرآة الطموحات الروسية
تصاعدت في الأسابيع القليلة الماضية حدّة الأزمة الدائرة على الساحة الأوكرانية، حيث دأبت وسائل الإعلام الغربية على التنديد بالحشود العسكرية التي دفعت بها روسيا في اتجاه الحدود مع أوكرانيا، وترى فيها تميهدا لغزو وشيك يستهدف إسقاط النظام الحاكم في أوكرانيا واستبداله بآخر موال لموسكو. ولأن التصريحات الصادرة عن مسؤولين كثيرين في الإدارة الأميركية الحالية توحي بتصميم الولايات المتحدة على التصدّي للمخططات الروسية تجاه أوكرانيا، أيا كانت حقيقتها، حتى لو تطور الأمر إلى صدام مباشر، فليس من المستبعد أن تتحوّل الأزمة الراهنة إلى مواجهة مفتوحة بين الشرق والغرب، ما يذكّر بنمط الأزمات التي جرت إبّان الحرب الباردة، كأزمة برلين في بداية الخمسينيات من القرن الماضي وأزمة الصواريخ الكوبية في بداية الستينيات من القرن نفسه. أستبعد أن يغامر الرئيس الروسي بوتين باتخاذ قرار وشيك بغزو أوكرانيا، على غرار ما قام به بوش الابن في العراق بداية تسعينيات القرن الماضي، إلا أنني لا أستبعد، في الوقت نفسه، تحوّل الساحة الأوكرانية في اللحظة الراهنة إلى معمل اختبار لموازين القوى في نظام دولي جديد ما زال في طور التشكل.
لفهم ما يجري حاليا، تجدر العودة بالذاكرة إلى لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكّكه، والذي لم يكن آنذاك مجرّد قوة عظمى تتراجع مكانتها في نظام عالمي اختلّت موازينه، وإنما كان يشكل، في الوقت نفسه، كتلة جيوسياسية هائلة، تتمدد على مساحة تزيد على 22 مليون كيلومتر مربع، وتستوعب ما يقرب من 300 مليون نسمة، وتضم مجموعات متباينة من دول وقوميات متنوعة (مجموعة الدول السلافية: روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، ومجموعة الدول المطلة على بحر البلطيق: لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، ومجموعة الدول التركية: أذربيجان وأوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وقرغيزستان. ومجموعة دول القوقاز: أرمينيا وجورجيا.. إلخ). ولأن روسيا الاتحادية، التي شغلت وحدها ما يقرب من ثلاثة أرباع مساحة هذه الكتلة وضمت أكثر من نصف سكانها، كانت بمثابة المركز الذي تدور في فلكه كل هذه المجموعات، فقد كان من الطبيعي أن يؤدّي تماسكها واستعادتها قواها المفتقدة إلى تأثيرات بعيدة المدى، ليس فقط على المنطقة المحيطة بها، وإنما على مجمل موازين القوى العالمية.
ليس من المستبعد أن تتحوّل الأزمة الراهنة إلى مواجهة مفتوحة بين الشرق والغرب
لقد احتاجت روسيا إلى عقدين لإزاحة بقايا الحطام الناجم عن سقوط الاتحاد السوفييتي، ولتمهيد الطريق أمام انطلاقة جديدة. وقد لعب فلاديمير بوتين، الذي يتصدر المشهد السياسي الروسي منذ عام 1999 سواء من موقعه رئيسا للدولة أو رئيسا للحكومة، دورا حاسما في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني اللازمين لإعادة البناء الداخلي أولا، قبل أن يصبح بمقدوره التفرغ لمواجهة التحديات الخارجية. ولأنه شهد بنفسه انهيار الاتحاد السوفييتي وما أدى إليه من آلام نفس وجرح للكبرياء الوطني، من موقعه ضابطا شابا في جهاز المخابرات الروسية (كي جي بي)، فربما أصبح أكثر من غيره وعيا وإدراكا لطبيعة التحدّيات التي تواجه بلاده على الصعيد الخارجي وجسامتها، ولما عليها أن تقوم به لاستعادة مكانتها المفقودة، فقد وجدت روسيا نفسها أمام مشروعين غربيين توسعيين، يهدفان إلى السيطرة على إرث الاتحاد السوفييتي القديم، ويعملان، في الوقت نفسه، لاحتواء روسيا وإجبارها على الانكفاء على ذاتها، وعدم التطلع إلى لعب دور مؤثر على الصعيد العالمي: الأول: جسّده الاتحاد الأوروبي، الذي يسعى إلى توحيد دول القارة الأوروبية، من خلال آليات التكامل والاندماج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. الثاني: جسده حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تسعى الولايات المتحدة من خلاله لبسط نفوذها على جانبي الأطلسي، بالاعتماد على آليات التحالف وتنسيق السياسات والاستراتيجيات السياسية والأمنية، ففي اللحظة التي كان فيها الاتحاد السوفييتي يتفكك وينهار، كانت حركة التكامل والاندماج، التي انطلقت من أوروبا الغربية في بداية الخمسينيات، قد قطعت شوطا طويلا على الطريق، وتبدو في كامل نشاطها وعنفوانها، فبعد أن فرغت من ضم دول أوروبية غربية واستيعابها، حال تعثر عملية التحول الديمقراطي دون التحاقها بالركب، كإسبانيا والبرتغال، شرعت الجماعات الأوروبية في الإعداد لمعاهدة ماستريخت، المؤسسة للاتحاد الأوروبي، ووقعت الدول الأعضاء فيها عليها عام 1992، ثم راحت، على الفور، تتطلع نحو التوسّع شرقا، لضم (واستيعاب) ما تستطيع، ليس فقط من دول أوروبا الشرقية، وإنما أيضا من الجمهوريات التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفييتي بعد تفكّكه. وهكذا بدت حركة التكامل والاندماج في أوروبا وكأنها تقترب من تحقيق حلمها التاريخي بالتحوّل إلى تنظيم مؤسّسي جامع للقارّة الأوروبية بمفهومها الجغرافي. على صعيد آخر، فقد تصوّر بعضهم أن إقدام حلف وارسو على حل نفسه نتيجة طبيعية لانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه، وسيؤدّي تلقائيا إلى إقدام حلف الناتو على حل نفسه، غير أن ما حدث كان العكس تماما، فقد بدأ لعاب الحلف يسيل وتنفتح شهيته، وراح يتطلّع إلى بسط نفوذه الأمني والعسكري على بقايا الامبراطورية السوفييتية المحطّمة، ويبدي استعداده لمدّ نطاق حمايته إلى حيث تستطيع قدراته أن تحمله.
آن الأوان ليتخلى قادة العالم عن منطق الأحلاف العسكرية، ولبذل جهد أكبر نحو تفعيل نظام الأمن الجماعي كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة
أما روسيا الجريحة، والمنطوية على ذاتها في ذلك الوقت، فكانت تتابع هذا المد التوسّعي المزدوج بقدر كبير من القلق، وتدرك أنها المستهدفة الأولى به، وأن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يسعون إلى تطويقها وحصارها كي تظل منكفئة على نفسها، وتتخلى عن كل الأحلام التي قد تراودها لاستعادة الدور والمكانة اللذين كانا للاتحاد السوفييتي يوما ما. ولأنه لم يكن في وسع روسيا في ذلك الوقت أن تفعل الكثير لوقف طموحات كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كان عليها أن تتريث لتستكمل بناءها الداخلي أولا، وما إن بدأت تتعافى من عللها، حتى شرعت في العمل على وقف هذا المد الغربي، تمهيدا لفك الطوق وكسر الحصار المضروبيْن حولها.
والواقع أن التحرّك الروسي على هذا الصعيد ليس وليد اللحظة، وإنما قبل ذلك بسنوات، وسار وفق خطة محدّدة، بدأت برسم خطوط حمراء لا يجوز للتوسّع الغربي، خصوصا جناحه العسكري ممثلا في حلف الناتو، أن يتعدّاها. ومن السهل على أي مراقبٍ لحركة السياسة الخارجية الروسية خلال العقدين المنصرمين أن يدرك أن هذه الخطوط الحمراء تشمل نوعين من الدول التي كانت فيما مضى جزءا من الاتحاد السوفييتي، وهما دول الجوار الجغرافي المباشر، خصوصا كازاخستان في الجنوب وبيلاروسيا وأوكرانيا في الشرق، من ناحية، وكذلك الدول التي توجد فيها أقليات روسية كبيرة، مثل جورجيا وغيرها، من ناحية أخرى. ولهذا السبب، يلاحظ أن روسيا لم تتردّد في خوض الحرب ضد جورجيا عام 2008، لمنعها من الاستيلاء على أوسيتيا الجنوبية، كما لم تتردّد في استخدام القوة لضم منطقة القرم إليها وفصلها عن أوكرانيا منذ عام 2014. وها هي تسعى الآن، بكل السبل المتاحة، إلى الحيلولة دون تمكين حلف الناتو من بسط نفوذه على بعض دول الاتحاد السوفييتي سابقا، خصوصا التي تقع في القلب مما تعتبره روسيا مجالها الحيوي، الذي لا ينبغي لأحد أن يستخدمه مصدرا لتهديد أمنها القومي.
احتاجت روسيا إلى عقدين لإزاحة بقايا الحطام الناجم عن سقوط الاتحاد السوفييتي، ولتمهيد الطريق أمام انطلاقة جديدة
تدرك روسيا أن مشروع الاتحاد الأوروبي يختلف كثيرا عن مشروع حلف الناتو، فلكل منهما إطاره المؤسسي الخاص، ولكل منهما أهداف وآليات وأدوات ومناهج عمل خاصة به، غير أن القيادة الروسية الحالية تتعامل مع هذين المشروعين باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، الأمر الذي لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة، خصوصا إذا جرى النظر إليهما من منظور جيواستراتيجي، فالواقع أنه ما كان يمكن لعملية التكامل والاندماج في أوروبا، التي بدأت في أوروبا الغربية، أن تنطلق إلا على جناحين أميركيين: مشروع مارشال وحلف الناتو، وكلاهما صناعة أميركية صمّمت في الأصل لاحتواء الاتحاد السوفييتي ومحاصرته (راجع كتابنا: الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة عربياً، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004). صحيحٌ أنه كان في وسع الاتحاد السوفييتي سابقا، وروسيا الاتحادية حاليا، التعامل مع عملية التكامل والاندماج التي يجسّدها الاتحاد الأوروبي حاليا باعتبارها مشروع سلام أوروبي خالص، يهدف إلى الحيلولة دون ظهور نابليون فرنسي أو هتلر ألماني جديد. وبالتالي، قابل للتعامل معه وفقا لمبدأ اقتسام المصالح والمنافع، غير أن الأمر يبدو مختلفا تماما مع حلف شمال الأطلسي لأسباب بديهية، فالولايات المتحدة هي القوة الدافعة والمحرّكة لهذا الحلف، الذي لم يعد دفاعيا مثل ما كان عليه الحال في زمن الاتحاد السوفييتي، بل أصبح تدخليا توسعيا موجها ضد روسيا في الأساس، ويسعى إلى دفع منظومات صواريخه متوسطة المدى إلى أقرب نقطة ممكنة من حدودها، وهو ما يستحيل على روسيا أن تقبله اليوم أمرا واقعا، خصوصا أنه لم يعد أمام الولايات المتحدة أي مبرّر عسكري أو أخلاقي للدفع بقواتها بالقرب من الحدود الروسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. يضاف إلى ذلك أنه سبق لبعض الدوائر الإعلامية الغربية أن أشارت إلى أن الإدارة الأميركية، بقيادة جورج بوش الأب، وعدت الرئيس يلتسين بعدم توسع حلف الناتو شرقا والاقتراب من الجوار الجغرافي المباشر لروسيا، لأن الإدارات الأميركية اللاحقة أنكرت هذا الوعد ولم توف به.
لقد دأبت وسائل الإعلام الغربية على ترديد مقولة بوتين عن انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي يرى أنه "أكبر كارثة جيوسياسية حدثت في القرن العشرين"، واعتبرتها دليلا على أنه يطمح إلى إعادة توحيد الاتحاد السوفييتي، لكنها تجاهلت قوله في الوقت نفسه: "مَن لم يحزن لانهيار الاتحاد السوفييتي شخص لا قلب له، ومن يسعى إلى إعادة الاتحاد السوفييتي لا عقل له". والأرجح أن بوتين، الذي يملك عقلا راجحا، لا يسعى إلى إعادة توحيد الاتحاد السوفييتي بقدر ما يسعى إلى إبعاد الصواريخ الأميركية عن حدود بلاده، وهو محقّ. أظن أنه آن الأوان ليتخلى قادة العالم عن منطق الأحلاف العسكرية، ولبذل جهد أكبر نحو تفعيل نظام الأمن الجماعي كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، ففي هذا المنحى سلامة للجميع.