الأسئلة الصعبة وراء اتفاق بكين
ثمّة كثير مما قيل ويقال عن الاتفاق "المفاجأة" الذي عقد بين السعودية وإيران برعاية صينية، وقد غرق بعضُهم في التفاؤل إلى درجة التوّهم أن الأمنيات التي تدور في رؤوسهم قد تحوّلت إلى حقائق، وأنّ الملفات العالقة بين العرب وإيران قد وجدت طريقها إلى الحلّ النهائي، وكلّ شيء قد تم على ما يرام، ولم يبق سوى تبادل السفراء كي تدرّ المنطقة سمناً وعسلاً!
وبغض النظر عن ذلك، لا يمكننا التقليل من إيجابيات الاتفاق وحسناته، فهو يوفّر، إذا ما خلصت النيات، جواً هادئاً للحوار الهادف بين أطرافٍ بينها ما صنع الحدّاد، وأنّ يشكّل فعلاً بادرةً لتغيير حال المنطقة، والعمل على إرساء حالة وفاق تخدم شعوبها، لكن ثمّة أسئلة صعبة ما زلنا نبحث لها عن إجابة، هل إيران مستعدة للتخلي عن منهجها في "تصدير الثورة" الذي اعتمدته منذ مولد "الجمهورية الإسلامية" قبل أكثر من أربعة عقود، وكيف ستتصرّف مع الفصائل المليشياوية المرتبطة بها والتي تشكّل درعها المهيمن على أكثر من عاصمة عربية، وبالتالي كيف سيكون موقف هذه الفصائل، هل سيرضى قادتها بحلّها وقد أصبحت مصدر رزق وهيبة لهم، أم سيحاولون التماهي مع الاتفاق والتظاهر باستقلاليتهم عن الجهة الراعية، وهم يتقنون فن "التقية" جيداً، ويتعاملون من خلاله؟
طرحت هذه الأسئلة على صحافي إيراني صديق يقيم في المنفى، أجاب: لو تخلّت إيران عن منهجها العدواني المعلن والموثق في دستورها وخططها الاستراتيجية فسوف تكون قد شربت كأس السم للمرّة الثانية، واقتربت من اعتماد منهج براغماتي يلتزم بمنطق الدولة، عند ذاك سنكون أمام إيران جديدة، إيران أخرى، عاقلة ومتآلفة مع محيطها، ومتفاهمة مع العالم، وعند ذاك لن تكون هناك مشكلة، لكن ما هو معروف أنّ إيران خميني وخامنئي وقاسم سليماني غير قادرة على فعل من هذا النوع إلا إذا حدثت معجزة، ولسنا اليوم في عصر المعجزات.
إذاً، ما الذي دفع إيران إلى القبول بالاتفاق؟ هناك ثلاثة عوامل: التكلفة المالية العالية التي تتحمّلها جرّاء تدخلاتها في دول المنطقة ورعايتها فصائل ومليشيات وتزويدها بالأسلحة والمعدّات في وقت تعاني فيه من تدهور اقتصادي واضح جرّاء العقوبات. تفجّر حركة احتجاجات شعبية مطالبة بالحرية والأمن والغذاء، وحفاظها على وتيرة متصاعدة تهدّد بقاء النظام وديمومته رغم عمليات القمع والقتل الممنهج. محاولة الظهور أمام المجتمع الدولي أنها قد تراجعت عن سياساتها المتطرفة، وأنّها حاضرة لتطبيع علاقاتها مع الجميع على قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واستثمار هذا العامل في إيجاد جو يسمح بالعودة إلى الاتفاق النووي. أضف إلى هذا أنّ في داخل المنظومة الحاكمة فريقاً "إصلاحياً" وجد فرصته مع الانتفاضة الأخيرة للدفع باتجاه إعادة النظر في بعض ما كانت تعتبره "الجمهورية الإسلامية" من المسلّمات التي لا يمكن تجاوزها.
قد تجعل إيران من الحوثيين كبش فداء في تطوير علاقتها بالسعودية، وسوف تكون السعودية ممتنّة لتجاوب إيران معها في طيّ صفحة هذا الملف
وكيف ترى موقف مليشياتها الموجودة في أكثر من بلد عربي في ضوء الاتفاق؟ يعطيك الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الإجابة "هذا الاتفاق لن يكون على حسابنا، ونحن واثقون أن الطرف الثاني (إيران) لا يخلع أصحابه، وأن الجمهورية الإسلامية لا تقوم مقام الشعوب، ولا تتخذ قراراتٍ نيابة عنا". كذلك ما أكّده أحد رجال "الإطار التنسيقي" أن الفصائل غير ملزمة باتفاقاتٍ تحصل بين الدول الأخرى.
وماذا عن الملفات العالقة؟ لا أتوقع تغييراً دراماتيكياً في هذا الشأن، لكن سوف تكون هناك حالة "تبريد" وتهدئة. قد تجعل إيران من الحوثيين كبش فداء في تطوير علاقتها بالسعودية، وسوف تكون السعودية ممتنّة لتجاوب إيران معها في طيّ صفحة هذا الملف، بما يؤدّي إلى إنهاء الحرب التي كلفت الكثير. ولبنان أيضاً سوف يتحلحل الوضع فيه على نحو يتيح اعتبار حزب الله شأناً داخلياً يترك للفرقاء المحليين أمر التعامل معه. والإشارة هنا إلى أنّ الحزب بدأ يخفّف من لهجته المعادية للسعودية، مع ملاحظة أنّ السعودية نفسها فقدت اهتمامها بلبنان كما كانت في السابق، وبدأت تفكّر بقضايا أكثر أهمية بالنسبة لها. وبالنسبة لسورية أرى أنها مقبلة، في ظلّ الاتفاق السعودي - الإيراني أو من دونه، على "مقاربة" تعيدها إلى جامعة الدول العربية، ومن ثم إيجاد "توليفة" خاصة بها، تضمن بلورة صيغة تكون مقبولة لدى الأطراف المتورّطة هناك.
يبقى العراق، وهو البلد الأكثر حساسية بالنسبة لإيران التي تعتبره "قدس الأقداس" في مشروعها الذي تسعى إلى تحقيقه، ونرى من الصعب التكهن بإمكانية حدوث اختراقٍ من جهة الهيمنة الإيرانية المباشرة التي عصفت به طوال الأعوام العشرين السالفة، وتتحكّم في اقتصاده ومجتمعه، وحتى في قراراته السيادية، وقد نحتاج وقتاً أطول قبل أن نلمس تغييراً ما فيه.
بالمختصر المفيد، نحتاج مزيداً من الانتظار والترقّب، كي نرى كيف ستسير الأمور.