الأسد في متاهته التركية
كادت طلبات رجب طيب أردوغان مرّات ثلاث في غضون أسبوع واحد للقاء بشّار الأسد تصبح محرجة للرئيس التركي إلى أن بدأت تصريحات ساكن قصر المهاجرين وبيانات وزارة خارجيته تخفّف من الشروط المسبقة للاجتماع، وتوزّع تسريبات مفادها أن الشرطين الأسديين تحوّلا إلى "متطلّبين"، على ما شرح الأسد بإسهابٍ مملّ، الاثنين الماضي، من أمام "مركز اقتراع" في دمشق. حتى أن هذين "المتطلّبين" قابلان للتفاوض، ويمكن أن يصبح مجرّد التعهد بتنفيذهما، بدل تنفيذهما، مدخلاً إلى تطبيع العلاقات بحسب ما نشرت صحف ومواقع نقلاً عن مقرّبين من السلطة السورية. ومعروف أن ما كانا شرطيْن في الأمس، وأصبحا "متطلبيْن"، هما الانسحاب التركي من مناطق شمالي سورية، و"وقف دعم الإرهاب"، أي تخلي تركيا عن دعم فصائل سورية مسلحة معارضة، نفوذ أنقرة على قراراتها وولاءاتها وسلوكها لا ينافسه نفوذ آخر.
أغلب الظن أن ضغط الوسطاء، الروس والعراقيين، والإيرانيين ربما، ساهم جدّياً في التخفيف من حدّة الشروط الدمشقية. ولكن لا بد من تفهم التردّد السوري الحكومي في هذا الشأن، ذلك أن ما تعرضه تركيا على الأسد دونه مخاطر بوزن القضاء على ما تبقّى من قوات هذا النظام. فتركيا، المهووسة بـ"الخطر الكردي"، تعرض انخراطاً سورياً حكومياً في حربها ضد المسلحين الأكراد ممن يسيطرون على جزءٍ كبير من الحدود المشتركة، والتي تمتد على أكثر من 900 كيلومتر ويحكمون قبضتهم على نحو ربع الأراضي السورية، معظمها مناطق "مفيدة" اقتصادياً، زراعياً ونفطياً ومائياً، وفيها معابر حدودية قد تفتح أبواباً موصدة منذ سنوات في وجه النظام على العالم الخارجي. تستند فلسفة الانخراط السوري الحكومي المفترض، بالنسبة إلى الأتراك، إلى أن المنطقة العازلة أو الآمنة هي الوسيلة الأجدى، والمنطقة تلك لا تنجح إلا إن كانت من جهتي الحدود، وهذا يفرض حتماً دوراً سورياً حكومياً في المناطق الخارجة عن نفوذ المعارضة. في هذا العرض السخي، يمكن أن تصبح فصائل سورية معارضة عديدة كتائب تخضع عموماً لقيادة النظام، ومهمّتها حماية الحدود من "الخطر الكردي المشترك". إذاً، في المعروض تركياً ما هو دسم ومغرٍ: مناطق زراعية ونفطية هي أكثر ما تحتاجه سلطات دمشق المفلسة، وسيطرة على سكان يمكن جني الضرائب منهم وتجنيد الآلاف، لكن أيضاً مناطق شاسعة لم يعد الجيش السوري الحكومي قادراً على ضبطها. ثم إن توريط قوات نظام الأسد في حربٍ مع الأكراد مقابل وعد مؤجّل بالجنّة الزراعية ــ المائية ــ النفطية، لا شكّ أن حكام دمشق يفقهون مخاطره جيداً، فقوات سوريا الديمقراطية (قسد) و"الاتحاد الديمقراطي" و"الإدارة الذاتية" حلفاء موثوق فيهم بالنسبة إلى أميركا ويحظون بدعمها سياسياً وعسكرياً وسيظلون يحظون به على الأقل إلى حين استعادة دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، هو الداعي إلى ترك "كل طرفٍ لكي يقلع شوكه بنفسه"، هذا إن سمحت له المؤسّسات الأميركية العسكرية والأمنية والسياسية بالتمادي في سياسات انسحابية انتحارية بالنسبة إلى المصلحة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. وفي بال الأسد بالتأكيد أنّ حتى تركيا، بقوتها وأطلسيّتها، لم تتمكّن من الذهاب بعيداً في حربها الشاملة ضد المسلحين الأكراد برّياً، والحملات الثلاث (درع الفرات ونبع السلام وغصن الزيتون)، التي شنتها في الشمال السوري منذ عام 2016، انتهت إلى نتائج متواضعة، مقارنة مع ما كان مرسوماً لها، أي القضاء على الخطر الكردي بالكامل. والحال أن أي مغامرة أسدية لاستهداف حلفاء واشنطن في الشمال السوري قد تعرّض مرتكبها لضرباتٍ أميركيةٍ لا طاقة لسلطات الأسد على تحمّلها.
بعيداً عن اتهام النظام السوري بالذكاء، لا سمح الله، يسود شعور بأن غريزة البقاء عند بشّار الأسد تؤخّر استجابته للوساطة الروسية ــ العراقية للتصالح مع تركيا. وكأن إحدى شخصياته المتعدّدة تقول له: لا تفتح أبواباً مغلقة على نفسك، لا تخض علاقات سياسية تترتّب عليها قرارات والتزامات جدّية. انظر إلى النصف الممتلئ من كأس سنوات العزلة، أنت في قصرك وهناك من يناديك سيدي الرئيس. ألا يكفيك هذا في دويلة قصر المهاجرين التائهة بين أربع دول أخرى فوق الأرض السورية؟