الأغلبية التكاثرية
اجتماع كائن ذكر مع كائن أنثى يؤدي حتما إلى تشكيل قطيع. ولكن ليس بالضرورة أن يؤدّي اجتماع كائن ذكر آخر مع كائن أنثى أخرى إلى تشكيل قطيع بمواصفات القطيع الأول، وخصوصا في ما يتعلق بحجم القطيع، حيث تتدخّل عوامل كثيرة تتسبب في نتائج مختلفة بين هذا القطيع وذاك، فأحد الذكرين مثلا أو إحدى الأنثيين قد يكون أقل خصوبة من نظيره مؤسس القطيع الآخر. ويمكن أن يموت أحد الأبوين، فيتوقف تكاثر القطيع، وإلى آخره من الأسباب. وهكذا تتشكل الأكثرية أو الأقلية. والإنسان لا يختلف عن بقية الثدييات بشيء، حيث يؤدّي تكاثره إلى تزايد حجم القبيلة أو العرق أو غير ذلك من التشكيلات الاجتماعية، ولكن ما يميز القطيع البشري عن باقي القطعان أنه قطيع مفكّر، أي أن الالتزام بالقطيع من الأفراد فيه ليس حتميا، وخصوصا عندما يمرّ القطيع بمنعطفاتٍ تاريخيةٍ او أزمات مختلفة، أو عندما تصل منظومته إلى طريق مسدود، وهو ما لا تعرفه القطعان الحيوانية. وبالتالي، خروج الفرد عن القطيع، خصوصا إذا كان هذا الخروج مرتبطا بدعوة إلى باقي أفراد القطيع لتبنّي الفكرة الجديدة التي جعلت هذا الفرد يخرُج عن القطيع، يؤدّي إلى عقد اجتماعي جديد.
هكذا ظهرت الأيديولوجيات التي اجتمع فيها الأفراد، بداية حول فكرة، ثم مع مرور الزمن، تحولت إلى دوغما، وأصبحت الأجيال اللاحقة لجيل الآباء جماعاتٍ تشكّلت بالتكاثر لا بالفكر. وبالتالي، إن شكّلوا أغلبياتٍ أو أقلياتٍ تكاثرية، تموت الأفكار وتتحوّل إلى ما يشبه الجينات، فإذا كان أبي صاحب عقيدة ما جئتُ أنا على عقيدته التي لم أخترها، وتبعني أبنائي في ذلك. ولو كان أبي من أتباع عقيدة أخرى، جئت أيضا على عقيدته، غير أن هذه الأغلبيات أو الأقليات، وإن كانت تشكل عدديا كتلة أكبر في المجتمع، إلا أنها ليست بالضرورة متجانسة، حيث يمكن أن ينتمي جزء من أفرادها إلى جماعاتٍ أخرى، تتشكّل من أفرادٍ ينتمون إلى أكثرياتٍ وأقليات أخرى، حاصلة بالتكاثر. وتتشكّل منها أقليات وأكثريات جديدة، مبنية على أفكار متجانسة أكثر من تلك الناتجة عن التكاثر، وهذه الجماعات هي الأكثر قدرةً على قيادة المجتمع، لأن بنيانها مشكّل من مختلف أفراد المجتمع، وهي لا تقتصر في تمثيلها على عرقٍ أو قبيلةٍ أو طائفة، ولكن مشكلة هذه الأكثريات، أو لنقل هذا الشكل من الجماعات، هو في عدم قدرته على الحياة في مجتمعاتٍ لا تتوفر فيها التربة للنمو.
بكلام أوضح، الأكثريات الفكرية غير قابلة للتطور أو البقاء في ظل سلطاتٍ تهيمن على كل مفاتيح التطور الاجتماعي، وتديرها بما يضمن سيطرتها وسطوتها، وبالتالي يضعفها ويحرمها من أقل مقومات النمو. وهذا بدوره يؤدّي إلى نمو الأغلبيات التكاثرية وتطورها، خصوصا في أزمان الحروب، حيث تصبح الجماعات التكاثرية ملجأ الفرد الذي يوفر له الحماية من احتمال تعرّضه لخطرٍ قد تشكّله الجماعات الأخرى.
بناء الأكثريات الفكرية أمر في غاية التعقيد والصعوبة، ويحتاج إلى مقدّمات كثيرة، والعودة إلى كنف التشكيلات الاجتماعية التكاثرية القطيعية تجعل إمكانية إعادة بناء التشكيلات الفكرية، بعد تعرّضها للتدمير، أو على أقلّ تقدير إضعافها إلى أدنى مستوى، أمرا صعبا ومعقدا ويحتاج إلى دورة اجتماعية أطول. وكلما طال زمن هيمنة الجماعات التكاثرية السائدة، بعددها وحجمها لا بفكرها، ازدادت صعوبة العودة إلى طريق التطور الصحيح، وزادت احتمالات اندلاع الحروب، ذات الطبيعة العنصرية. ولا تتسبب هيمنة هذا الشكل من العلاقات الاجتماعية فقط في تفاقم الصراعات وصناعة الأزمات، إنها سبب في التخلف العلمي والثقافي، وفي التدهور المالي للفئات المتوسطة والفقيرة، وفي كل مناحي الحياة. وتحييد هذا الشكل والحد من تأثيره على العقول ضرورة ملحّة، لنقل المجتمع خطوة إلى الأمام.