الأغلبية الحائرة
تم التعارف على تسمية الصامتين، أو الذين لا يعلنون موقفا واضحا مما يجري، بـ "الرماديين" أو "الأغلبية الصامتة". وتعتبر هذه الفئة من الناس الفئة الأكثر تعرّضا للتنمر من طرفي الصراع، لأن كلا منهما يعتقد أنها العائق الأول أمام تمكّنه من حسم الصراع لصالحه. من حيث المبدأ، ربما كانت هذه الأغلبية هي بالفعل العائق في تمكّن كلا الطرفين من تحقيق انتصاره الكامل، وعادة ما توجّه لها تهم، مثل التخاذل والتجابن، وغير ذلك مما تزخر به ثقافتنا العربية في مثل هذه الحالات. ولكن الحقيقة أن الصمت هنا ليس انتفاء الموقف إطلاقا، فالصمت هو موقفٌ ثالثٌ ناتج عن عدم قناعة الفريق الصامت بكلا الخصمين، وربما ينتظر هذا الفريق اللحظة المناسبة، ليقول كلمته التي لا تُعجب الطرفين، ولكن هذه الكتلة الصامتة التي يُطلق عليها لقب الأغلبية هي في الحقيقة ليست كتلة واحدة ولا متجانسة، ولا يمكن تسميتها بالأغلبية في أي حال. ولو كانت كذلك لكان موقفها هو الأقوى، فجزء من الأغلبية الصامتة يميل، بهذه النسبة أو تلك، إلى أحد طرفي الصراع، وجزء آخر يميل، بالقدر نفسه، إلى القطب الخصم وتنخفض نسبة الميل إلى أحد القطبين، حتى تنعدم في المنتصف مشكلة كتلةٍ عدميةٍ لا تميل إلى أي طرفٍ من الطرفين. ربما يكون الخوف هو سبب انضمام جزءٍ من هذا الجمهور لهذه الأغلبية بالفعل. ولكن الخوف هنا ليس فقط من بطش السلطة المستبدّة، وإنما من الجانب المنتفض على هذه السلطة كذلك، والذي قد يكون خطابه وسلوكه ليس أقلّ استبدادية من استبدادية تلك السلطة. ولذلك يشعر جزء من الجمهور الصامت بالخوف منه، كما يشعر جزءٌ آخر بالخوف منها، لكن الخوف بالتأكيد لا يشكل السبب الأكبر لتشكّل هذه الأغلبية الصامتة، فهناك أسبابٌ كثيرة أخرى، أهمها عدم وجود مشروع بديل يقنع ذلك الجمهور ويجعله يصطف خلفه، فالشعارات لا تكفي لاستقطاب الجمهور، لا بل إنها تلعب عاملا طاردا ومنفرا، في أحيانٍ كثيرة، بسبب التجربة العربية الناجحة في الهزء من الشعارات عقودا. ولذلك لا بد من مشروعٍ مرتبطٍ بسلوكٍ موازٍ منسجمٍ مع هذا المشروع، وضمانات لهذا الجمهور لكي يعلن اصطفافه بشكل صريح خلف هذا الطرف أو ذاك، فما هو المغري في خوض المعارك من أجل طرد زيدان ليجلس مكانه حديدان، أو لاستبدال شهاب الدين بأخيه؟
وأخيرا، لدينا قسم لا بأس به من الأغلبية المذكورة لها رأيٌ ثالثٌ تخشى قوله، كي لا يتم طحنها برحى الصراع، لا شك أن لخطاب كل طرفٍ دورا أساسيا في بقاء هذه المجموعة أو تلك ضمن هذه الأغلبية أو انفصالها عنها والتحاقها بأحد القطبين. ويمكن القول إن هذه الأغلبية قد يكون سبب تشكلها هذا الخطاب بالدرجة الأولى، الخطاب الذي اتسم بالتشنّج، وتفوّقت قدرته الطاردة بدرجةٍ كبيرةٍ على قدرته المستقطبة. التشنج حالة مرضية تصيب الخطاب كما تصيب الأعصاب، ولا يمكن قيادة صراعٍ بخطابٍ متشنّج. والذي يريد الانتصار في معركته لا بد له من خطاب متّزن يتوجه فيه إلى أنصار خصمه بالاهتمام نفسه الذي يتوجّه فيه إلى أنصاره، يبحث عن الثغرات التي لدى الخصم، ويخاطب عبرها جمهوره ويضعف موقفه، ولا يكتفي بذلك، بل يبحث عن النقاط المشتركة مع أنصار الخصم، ويتناولها بشكلٍ يجعل هذا الجمهور يتآلف معه، ويصبح أكثر قابليةً للتجاوب مع طرحه.
أما الخطاب المتشنج فيلعب دورا ليس فقط في رصّ صفوف الخصم، بل أيضا في انضمام جزء من الأغلبية الصامتة إلى ذلك الخصم. وبذلك يكون قد وفر سببا إضافيا لخسارة المعركة التي يخوضها. الخطاب المرن المتوازن يجب أن يستهدف، بالدرجة الأولى، هذه الأغلبية، لأن فاعليته ستكون مثمرة، وسيكون له تأثيره على الموقف وتطور الأحداث أكثر من أي مكان آخر، لأن هذه الأغلبية التي من الأصح تسميتها الأغلبية الحائرة بدلا من الأغلبية الصامتة، جزء كبير منها يحتاج فقط إلى خطابٍ يشدّه ولا يصدّه، لكي يتخلى عن صمته. أما بوجود الخطاب المتشنج فلا حاجة لعدو من أجل خسارة المعركة.