الأقصى وجنين .. ثنائية تُقلق واشنطن وتل أبيب
في المنظور الأميركي؛ تحقيق ما تسمّى "التهدئة التامة" هو عنوان المرحلة وهدفها، فلا حديث عن "عملية سلام" ولا عن مفاوضات، المطلوب هو منع انتفاضة ثالثة، وبالتالي منع أي تصعيد في ساحة المسجد الأقصى من الانفجار في وجه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكسر شوكة جنين، بؤرة مقاومةٍ صنعت ملحمة في عام 2002، ونهض جيل جديد ليكمل مشواراً لم ينته، فما نشهده تخشى واشنطن وتل أبيب أن يكون البداية. بل هناك تفاهمات أميركية – إسرائيلية لتوظيف مزيج من القوة و"تحسين الوضع الاقتصادي" في جنين، للقضاء على ما تسمّيها إسرائيل "بؤرة الإرهاب" فإسرائيل لا تستطيع أن تتلفظ بكلمة "المقاومة" لأنّ التعبير نفسه يتحدّى شرعيتها. لكنها، أي التفاهمات،عرضةٌ لصراع داخلي بين شقّي الحكومة الإسرائيلية، فهناك جناح يميني وجناح يميني متطرّف، والأخير غير مقتنع بضرورة التهدئة ولا بضرورة عدم دفع الأمور إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة وشاملة.
اجتياح الجيش الإسرائيلي المسجد الأقصى واعتداؤه على المصلّين الفلسطينيين وتنكيله بهم أثبت أنّ الجناح الأكثر تطرّفاً في الحكومة الإسرائيلية، ويمثله رئيس الوزراء نفتالي بينت، لم يلتزم بالتفاهمات مع واشنطن، رغم أنّ وزير الدفاع الصهيوني، بيني غانتس، أكد أنّ الحكومة لن تمنع المصلين الفلسطينيين، ولن تسمح بدخول مجموعات دينية يهودية متطرّفة ساحة المسجد، حتى تتمكّن (الحكومة) من التركيز على عملية التطبيع العربية الإسرائيلية التي تشترط تغييب القضبة الفلسطينية عن الخريطة السياسية وعن وعي الشباب العربي. لكنّ الحكومة الإسرائيلية فعلت العكس تماماً؛ فنحن نشهد مظاهر هبّة شاملة، لكن بتحدٍ جديد يمثله جيشٌ غير مرئي من شبابٍ يتقن العمليات الفدائية المنفردة، قد تستفزّهم اعتداءاتٌ على المصلين في الأقصى، فيقدمون على تنفيذ عمليات هجوم في وسط المدن، إضافة إلى تحدّي محاولة كسر جنين، حتى لو تطلّب قصف جنين المدينة، والمخيم وما حولهما. فكيف لإسرائيل أن تحقّق "التهدئة التامة" بعدما تسبّبت بتصعيد في المسجد الأقصى؟
إسرائيل ترتكب جرائمها في العلن، ولا يمكن إخفاء الحقائق والدلائل
المطلوب أميركياً "تخفيف بؤر التوتر" حتى لا تتكرّر مشاهد هبّة أيار قبل نحو عام، والعدوان الصهيوني على قطاع غزة، وما نتج عنهما من إحياء تضامن شعبي عربي وإدانة عالمية لإسرائيل... في محاضرة له في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، كشف بيني غانتس أنّ إسرائيل تعمل على مواجهة عمليات المقاومة تحت عنوان "مكافحة الإرهاب" وفي الوقت نفسه، على مواجهة (وتخفيف) حملة العداء العالمية ضد إسرائيل وانتشار حركة المقاطعة العالمية (بي دي أس) وعلى عدة جبهات.. لذا فإنّه يتفق مع "تحقيق التهدئة الشاملة"، وأن تسمح الحكومة لعدد أكبر من الفلسطينيين في قطاع غزّة بالعمل في إسرائيل، فيما تضخّ واشنطن الأموال لمشاريع تنموية عن طريق السلطة الفلسطينية التي بدأت بتمويل مشاريع في جنين، لأنّ أيّ انفجار يعرقل عمليات التطبيع والمحاولة الإسرائيلية لكسب الرأي العام الغربي الذي تحسّ تل أبيب بتحولاته المتسارعة.
ليس غانتس أقل تطرّفاً من نفتالي بينت، أو حتى من الحركات التي تقتحم المسجد الأقصى، بل هو صهيوني متطرّف يصر على تسمية الضفة الغربية "يهودا والسامرة" والمسجد الأقصى "جبل الهيكل" لكنّه يمثل تياراً داخل المؤسسة الصهيونية، يرى في التطبيع الإسرائيلي العربي، وبخاصة بعد الاتفاقيات الإبراهيمية مع الإمارات والبحرين والمغرب، فرصةً تاريخيةً غير مسبوقة لدمج إسرائيل في المنطقة، بل وتثبيت هيمنتها، خصوصاً أنّها تعمل الآن ضمن إطار القيادة المركزية للجيش الأميركي في المنطقة الوسطى (سينتكوم)، أي أنّها جزء رسمي من القواعد والخطط العسكرية الأميركية في المنطقة. والفرق بين غانتس وبينت ليس في درجة التطرّف الأيدولوجي، وإنما في التفكير الاستراتيجي "التهدئة"، وإنْ تعني، استراتيجياً، السيطرة على الفلسطينيين، ما يتطلب تخفيف بعض الإجراءات الإسرائيلية، وإنْ لم يحدث ذلك، فالعقلية الصهيونية العسكرية العنصرية لا تتحمّل أي فعل مقاوم.
فلتفرح واشنطن بالمطبّعين ولتبتهج، لكن، لا قرار لديهم، فالقرار عند أصحاب الأرض والمدافعين عنها
وغانتس الذي يتحدّث بأريحية في معهد واشنطن "الصهيوني" هو في النهاية مجرم حرب، لكنّه يواجه معضلة مواجهة جيل جديد من الشباب الفلسطيني، يضرب في أيّ لحظة وفي أيّ مكان، وقد يختار حملة عسكرية على جنين تُفجر انتفاضة أيار ثانية، وهذا ما لا يفهمه الإسرائيليون، ومنهم غانتس. بالتالي، تعتمد الخطوات الإسرائيلية كثيرا على رؤية واشنطن. صحيحٌ أنّ إسرائيل لا تخشى واشنطن، لكنّها تعتمد على الإدارة الأميركية في دفع عملية التطبيع مع الأنظمة العربية، فالهدف من اتفاقيات التطبيع دمج إسرائيل بالمنطقة وإحلال أحلام الرواية الصهيونية مكان الرواية التاريخية الفلسطينية، أي إلغاء حق الشعب الفلسطيني في وطنه. وتبدو واشنطن أقدر من إسرائيل على إدارتها، من خلال الدعم المالي والقروض المشروطة للدول العربية، ففكرة تحييد أزمة حي الشيخ جرّاح أميركية المصدر، فكان قرار المحكمة الإسرائيلية بمنع طرد العائلات الفلسطينية من بيوتها.
لا يعني ذلك أن مقاومة أهالي حي الشيخ جرّاح لم تنتصر، بل إن الضجّة التي أثارها صمود الحي وشجاعة أهله، وامتداد الهبّة إلى كل أنحاء أرض فلسطين التاريخية، استدعى تدخلا وضغطا أميركيين على إسرائيل، فلا خطة "سلام" لدى واشنطن، ولم تكن لتدع التضامن العربي والعالمي يعرقلان عملية التطبيع العربية – الإسرائيلية. لا تغيير في موقف الولايات المتحدة، لكنها تريد تهيئة الأرضية الخصبة المناسبة لقبول إسرائيل، وقبول ادّعائها بالحق التاريخي في فلسطين، وبالتالي مسح القضية الفلسطينية من وعي الشعوب العربية وذاكرتها.
إسرائيل لا تستطيع أن تتلفظ بكلمة "المقاومة" لأنّ التعبير نفسه يتحدّى شرعيتها
ما لا تريد أميركا فهمه بدورها أن التطبيع، حتى لو أصبح جزءا من العرب يشدو بالنشيد الإسرائيلي، لن ينهي المقاومة الفلسطينية، وأنه ليس من السهولة تغييب الوعي العربي بشكل جمعي، فإسرائيل ترتكب جرائمها في العلن، ولا يمكن إخفاء الحقائق والدلائل، فالتطبيع لم ولن يغير من طبيعة المشروع الصهيوني الكولونيالي العنصري. وبالتالي؛ المقاومة الفلسطينية مستمرّة، فلا هدوء ولا تهدئة، فالأجيال ترث الرواية وحكايات التهجير والمقاومة، وهو درسٌ لا تفهمه عقليةٌ استعمارية لا ترى إلا البطش سبيلا لاقتلاع شعب متمسّك بجذوره.
يدلّ اقتحام الجيش الإسرائيلي المسجد الأقصى على فقدان أعصاب لدى الحكومة الإسرائيلية، ومشروع التهدئة الأميركي سيفشل، فهذا الاقتحام في شهر رمضان لم يمر، و لن يمر، بل إنه، وكما هو متوقع، حرّك الشارعين، الفلسطيني والعربي، وعلى أميركا أن تعيد النظر في خططها، وتفهم أن إسرائيل محاصَرةٌ بشباب لا يخافون من ترسانتها، وشعب تتفاعل الأرض مع غضبه .. أما المطبّعون؛ فلتفرح واشنطن بهم، ولتبتهج، لكن، لا قرار لديهم، فالقرار عند أصحاب الأرض والمدافعين عنها.