الإسلام السياسي وفشله... التفكير في الأسئلة
نقاش عميق ولطيف بين أحد قياديي حزب العدالة والتنمية في المغرب، محمد يتيم، وهو مثقف وفقيه إسلامي بارز، وهشام جعفر، وهو باحث مصري مميز ذو نزعة نقدية عميقة. كتب الأول مقالاً بعنوان "هل فشل الإسلاميون وانتهى زمن الإسلام السياسي؟" (الجزيرة نت، 9/9/2023)، يردّ فيه على هذه المقولة. وكتب الثاني "نعم فشل الإسلاميون وانتهى زمن الإسلام السياسي" (الجزيرة نت، 17/9/2023)، ويردّ فيه على يتيم.
لعلّ السؤال، كما يعلم قرّاء ومتابعون كثيرون، ليس جديداً، بل هو مطروح منذ منتصف التسعينيات، من مفكّرين ومثقفين فرنسيين، ثم جاءت مقولات "ما بعد الإسلام السياسي" لتحمل موقفين متناقضين، يرى الأول أنّ ما بعد الإسلام السياسي عنوان لفشل تلك الحركات، والثاني الذي كرّسه الباحث السوسيولوجي آصف بيات بالقول إنّ ما بعد الإسلام السياسي مرحلة جديدة لتحول الإسلاميين وتطوّرهم أيديولوجياً وفكرياً.
يقودنا النقاش عن فشل الإسلام السياسي من زاوية قيمية أو معيارية إلى نقاش لن ينتهي، وآراء ستبقى تدور في مربّعات محدودة معروفة. والحقّ أنّ كلا الكاتبين (يتيم وجعفر) طرحا حججاً وجيهة في الدفاع عن أرائهما، لكنهما لم يخرجا بنا من الجدل المعروف، وإن استحضرا المتغيرات الأخيرة. المطلوب هو التفكير في طرح أسئلة جديدة مختلفة، بعد كل تلك التحوّلات والتغيرات بعد الربيع العربي، وما حدث من تطوّرات بنيوية في الطرح الإسلامي السياسي. والسؤال المهم اليوم: إلى ماذا تقودنا هذه التطورات الفكرية والتحولات السياسية في العالم العربي؟ على صعيد الإسلام السياسي وأطروحته الأيديولوجية ودوره السياسي؟
سواء اعتبرنا أنّ هزيمة حزب العدالة والتنمية المدوّية في المغرب العربي في الانتخابات 2021، بعد عشرة أعوام من المشاركة الكبيرة في الحكم، والحال كذلك بالنسبة لحركة النهضة في تونس، أو التجارب التي دخلت في حالةٍ صدامية في مصر، هل هي أخطأت أم أنّها دفعت ثمن الثورة المضادّة، المهم اليوم السؤال الجوهري: ماذا بعد؟ ماذا نتوقع؟
بعد أحداث ميدان رابعة العدوية، قدّمت مجموعة من المقاربات الأيديولوجية ذات الطابع الأمني مقاربة عودة الإخوان المسلمين إلى العمل المسلّح، وهي أطروحة فشلت بجدارة (بالرغم من استثناءات). واليوم مع عودة حالة الانسداد السياسي بعد الربيع العربي؛ والهزائم الديمقراطية في التجارب السياسية الإسلامية، فإنّ السؤال: ما هي الخيارات الاستراتيجية للإسلاميين؟ هل هي العودة إلى طرح ما استبطنه يتيم؛ الإصلاح من داخل "السيستم" والقبول بشروطه بدعوى "البراغماتية السياسية"، أم التفكير في صيغة أخرى من النضال والإفادة من تجارب الربيع العربي، مع استبعاد خيار "الإسلاميين الجهاديين" بالطبع؟
إذا ذهبنا نحو أسئلةٍ أكثر عمقاً ألمح إليها جعفر في مقاله: ماذا تبقّى من الإسلام السياسي؟ من الأحلام الأيديولوجية والتاريخية القديمة بعدما تنازل عنها (قبوله بالديمقراطية بصيغتها النهائية، والتخلي عن حلم إقامة الدولة الإسلامية، الفصل بين الدعوي والسياسي، الانتقال إلى صيغة برامج الحكم بديلاً من أطروحات الاستثناء الإسلامي الأيديولوجي)؟ هل ستنتقل تلك الأحزاب إلى أحزاب محافظة تركّز على الفضائل الأخلاقية، وبالتالي، تصبح جزءاً من اللعبة السياسية بلا لون فكري خاص؟ أم ستراجع بعد التجربتين التونسية والمغربية المسار وتسترجع الخطابات الأيديولوجية، وهل سيسعفها ذلك في استعادة شعبيتها وتعيد عجلة الزمن إلى وراء؟
طرح جعفر متغيّرات بنيوية على درجة عالية من الأهمية، من الضروري أن تستبطنها الأسئلة والنقاشات البحثية في المرحلة المقبلة؛ منها التحوّل في أنماط التديّن الاجتماعي (كما تظهرها استطلاعات الرأي) لدى جيل الشباب اليوم نحو النزعة الفردية، ومنها انتهاء الدور الاجتماعي- الدعوي الذي أسند الإسلاميين خلال العقود الماضية، ولم يعد ميزةً لهم، بل أصبحت حتى حكومات عربية عديدة، أخذت بنظرية بعض المثقفين العرب البارزين في رد الاعتبار للمؤسّسة الدينية الرسمية، تقوم بصوغ الخطاب الديني وسحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين؟
ثمّة أسئلةٌ وتساؤلاتٌ عديدةٌ جديرةٌ بأن تعيد هيكلة الأجندة البحثية والنقاشية العربية وترتيبها في ما يتعلق بسؤال الإسلام السياسي.