الإنجاز الحقيقي لقطر الذي نفخر به
أمور كثيرة كشف عنها تنظيم قطر مونديال 2022، يهمنا هنا اثنان منها. الأول، ظاهر بارز، ويتمثل في تلك العنصرية البغيضة التي أبان عنها جزء واسع من "الغرب"، الذي لم يتحلّل بعد من عقد المركزية والاستشراق والتفوّق، دع عنك معاييره المزدوجة التي تبيح له رؤية القذى في أعين الآخرين في حين لا يرى الجذع في عينه. والثاني، بادٍ للعيان، ولكنه لم يحظ بكثير اهتمام ضمن سياقه الحقيقي. والحديث هنا عن الهجوم العنيف الذي شنّه "إعلاميون" عرب على قطر جرّاء حرصها على مراعاة المنظومة القيمية العربية والإسلامية في المونديال، إلى حد اتهامها بأسلمته. وفي حين قد يبدو هذان الاتجاهان متعارضين، إلا أنهما في الحقيقة متكاملين. الأول يؤمن بتفوقه العرقي والقيمي، والثاني، الذي وإن كانت دوافعه لا تخلو من الكيد والمناكفة السياسية، إلا أنه يستبطن شعوراً بالدونية العرقية والقيمية والأخلاقية.
بعيداً عن فذلكات مزاعم حقوق الإنسان وحقوق العمّال التي حاول بعض الغرب تسليحها (weaponizing)، في وقت تستشري فيه العنصرية والشعبوية في مجتمعاته، فإن الأخطر هو الإيحاء بـ"التفوّق القيمي" و"التفوّق الأخلاقي" للغرب في مقابل "الشرق" البدائي المتخلف. إنها النظرة الاستشراقية الاستعلائية ذاتها التي تقارب "الغرب" على أنه مركز الكون إنسانياً وحضارياً، في حين يقبع بقية العالم دونه. وإذا كان من المفهوم أن الغرب متقدّم تكنولوجياً وسياسياً وقانونياً وإدارياً وأكاديمياً واقتصادياً... إلخ، ونحتاج أن نتعلم الكثير منه، فإن هذا لا يعطيه الحقّ أبداً في أن يزعم أن منظومتيه القيمية والأخلاقية بالتقدّم ذاته، أو أنهما تصلحان معياراً للكون والإنسان. وأي محاولة لنفي ثقافة الآخرين ومعاييرهم القيمية والأخلاقية وتسفيهها أمر ينبغي رفضه، خصوصاً أن الغرب لم يقدّم نموذجاً في هذا الصدد، بما في ذلك اجتماعياً، يعتدّ به ليُتّبَع.
ينحاز جزء واسع من الغرب إلى ما تسمّى "الأخلاق البراغماتية "pragmatic ethics، التي ترى أن المبادئ والقيم والأخلاق في حالة صيرورة وحركة دائبة، وهي قابلة للتطوّر، زمانياً ومكانياً، بل وحتى التغيير جذرياً، تماماً كما الحقائق العلمية أو التاريخية، بناءً على التجربة والمعلومات والمعطيات التي تستجدّ، بمعنى أنها ليست معياريةً في حد ذاتها. أما بوصلة التطوير أو التغيير فهي واحدة، مناطها المصلحة وأن تكون عملية. من هنا، مثلاً، جرت إعادة تعريف مفهوم "مؤسّسة الزواج" من كونها علاقة بين رجل وامرأة لتكون شاملةً، إلى الآن، علاقة بين شاذّين من الجنس ذاته. أيضاً، لم تعد خانة الجنس مقصورةً على ذكر وأنثى، بل تنوّعت الخانات، وهي تتوسّع بشكل دائب. وفي الغرب الذي لا زال يمنع بصرامة التحرّش الجنسي بالأطفال (pedophile)، ويعد ذلك جريمة لا تهاون فيها، ثمَّة نقاش راهن، وإن كان محصوراً في نطاقات ضيقة، حول ما إذا كان الشبق الجنسي بالأطفال حالة غريزية طبيعية عند بعضهم، وليس بالضرورة شذوذاً يستلزم العلاج والعقاب. وثمَّة من يتوقع أنه مع التطور الزمني والقيمي، فإننا قد نشهد نوعاً من تطبيع هذه المسألة لاحقاً.
لم تأبه قطر بسقط المتاع بيننا، ممن يعانون مركّب النقص ويستعرون بالذات
ليست "الأخلاق البراغماتية" محلّ إجماع في الغرب، بل ثمَّة صراعات دينية وثقافية واجتماعية وسياسية تُخاض على خلفيتها، ومن ثمَّ تغدو محاولات تعيير قطر وتوبيخها بسبب حظرها شعارات الشذوذ الجنسي نوعاً من النفاق السياسي، وليس فقط إيحاءً بالتفوّق القيمي والأخلاقي. ليست "المركزية الغربية" قدراً على العالم، ولا هي في مصلحته، خصوصاً قيمياً وأخلاقياً، إذ إنها تعدم المرساة والاستقرار، وجلُّ الإنسانية، بكل خلفياتها الدينية والثقافية، يهودية ومسيحية ومسلمة وهندوسية وبوذية... إلخ، ترفضها وتلفظها.
هنا يدخل الاتجاه الثاني، الذي يفترض أنه ينتمي إلى الفضاء العربي والإسلامي، قيمياً وأخلاقياً، ومع ذلك ساءه واستفزّه أن يشتمل حفل افتتاح المونديال على آية كريمة عن التنوّع والتعاون، فضلاً عن مساعي قطر تقديم صورة مشرقة عن الإسلام والمسلمين، ومحاولاتها تنظيم بيع الخمور وتناولها خلال التظاهرة العالمية، فظنّوا هذا سبباً لدسّ الرؤوس في "رمال الفضيحة"، وما دروا أنهم فيها أصلاً غارقون. لنستبعد، كما سبق القول، المناكفة السياسية، إذ إنها حاضرة بقوة في أجندة هؤلاء، إلا أن هذا لا ينفي أنهم يعانون من مركّب نقص وشعور بالدونية فظيع. ليس في الإسلام النقي الخالي من شوائب التشويه والعسف ما يستدعي الخجل، وإذا كان من حقّ الغرب أن يؤمن "بمركزية" قيمية وأخلاقية له غير قائمة في أرض الواقع، فإن من حقنا أن نفخر بمنظومتنا الدينية والروحية والقيمية والأخلاقية الصافية المتحرّرة من سلطة الجهل والتاريخ والعادات والتقاليد، والتي نرى فيها خير البشرية وما تفتقده الآن.
لم تخطئ قطر في تأكيد انتمائها لمرجعيّتها الحضارية، بل هي تُشكر على ذلك، ونرفع الرأس بها عالياً، إذ إنها لم تصمد أمام بلطجة دعاوى مركزية الغرب فحسب، بل ولم تأبه بسقط المتاع بيننا، ممن يعانون مركّب النقص ويستعرون بالذات. أيضاً، لم تبهر قطر العالم بحسن تنظيمها المونديال فقط، بقدر ما أنها نجحت، كذلك، في تذكير الجميع بأن العالم أوسع من "غربٍ" يدّعي التفوّق، وأن الإنسانية لا تَخْتَزِلُ تاريخها وقيمها وأخلاقها، ولا حتى مستقبلها، فيه.