30 أكتوبر 2024
الاقتصاد عندما يخسر جولة
مجدّداً: من الذي يتحكم بالآخر؟ هل الاقتصاد هو ما يحكم السياسة، بما هي قرارات فوقية سلطوية تنظّم علاقات سلمية أو حربية داخل حدود جغرافية أو مع الخارج؟ أم العكس، أي أن الهويات والقوميات والأيديولوجيات والنظريات (منها الدينية) والأهواء وعداوات التاريخ والنظرة إلى الذات وإلى العالم هي التي تملي شكل الاقتصاد وقراراته الكبرى واتجاهاته الرئيسية، يميناً أو يساراً؟ ظنّ العالم أن الإجابة حُسمت، منذ عقود على الأقل، لمصلحة تفوّق الاقتصاد على ما سواه، فالمصلحة الاقتصادية، بتعريفاتها الضيقة أو الواسعة، هي التي تحرّك القرارات، على الصعد الفردية أو الجماعية. كان الاعتقاد أن ذلك ليس مجرد اكتشاف ماركسي حصري، بل بات من بديهيات الاجتماع البشري، على الرغم مما عادت الأيديولوجيات الشمولية الكبرى لتكذبه، عندما كسرت الفاشيات والشيوعية مصالح اللوبيات الاقتصادية المهيمنة في حينها، وبنت اقتصادها الخاص الذي أنتج بدوره لوبياته وقوانينه ونخبه وناسه، وصار يحكم السياسة بدوره. وبعد عقود من استعادة الاقتصاد المبادرة في تحديد اتجاهات القرارات السياسية الكبرى، يُستأنف، من بريطانيا، التشكيك بقانون وصاية الحسابات المصلحية والمالية والمعيشية على ما عداه مما ينتمي إلى عالم السياسة، كانتخابات واستطلاعات للرأي وشكل الأحزاب وتعددها أو تقلصها واتجاه الخيارات الكبرى للشعوب. أحد مصادر أهمية ــ خطورة بريكست، وما تلاه، وما هو مستمر، أنه يفتح المجال واسعاً للتشكيك بشمولية قانون وصاية الاقتصاد على السياسة. في يونيو/حزيران 2016، عندما قرّرت غالبية بريطانية قول ذلك الـ"نعم" لإبطال العضوية في الاتحاد الأوروبي، وهي التي منحت المملكة المتحدة مرتبة خامس أكبر اقتصاد في العالم، فإن تلك الغالبية عبرت عن مزاج ريفي مزارع محافِظ وهرِم لناحية مستوى الأعمار. مزاج ملوَّن قومياً بعدد معتبر من المهاجرين المجنّسين ممن أيدوا الطلاق الأوروبي وهمّهم من ذلك منع استمرار وصول أقرانهم من المهاجرين لـ"يسرقوا" الوظائف التي "سرقوها" هم بدورهم، وفق هذا المنطق البدائي. في حينها، فاز الخيار المصلحي الريفي الانعزالي، لا على رؤى شباب ليبرالي مديني فحسب، بل أيضاً انتصر على كبار لوبيات الاقتصاد من شركات عابرة للحدود واتحادات مصارف وحيّ الأموال والبورصات في لندن وروابط المصانع ورجال الأعمال... قيل في حينها إن ما جعل ذلك الانقلاب المفاجئ في موازين القوى نتج عن حملة كذب هائلة قام بها بوريس جونسون ونايجل فاراج، وشارك فيها ضمنياً، ربما عبر سكوته، جيريمي كوربين، كرهاً بالاتحاد الأوروبي وتمسكاً منه بأدبيات اليسار الأوروبي الحالم بـ"أوروبا اجتماعية" vers une Europe sociale على حد تعبير البرامج الانتخابية الأثيرة للحزب الشيوعي الفرنسي. لكن مرّت أكثر من ثلاث سنوات على ذلك الكذب والتزوير في الأرقام والتخويف والوعود الباطلة بجنات ستفتح أبوابها فور إتمام طلاق الجزيرة مع تلك القارة العجوز. مرت السنوات وظهر زيف الوعود، واقترب موعد الخروج باتفاق أو من دونه على الأرجح، في 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، ولا تزال غالبية بريطانية تؤيد قرار الانتحار، أو على الأقل إطلاق الرصاص على أرجلها. وكأن مزاج البريطانيين يسير بالضد من أجواء الشركات ومخاوفها وتحذيراتها من أحوال يخال قارئ الصحف البريطانية أنها قد تصل إلى حدّ المجاعة في مطلع نوفمبر: كلما صدرت تقارير عن فداحة الخسارة المنتظرة في حالة "بريكست بلا اتفاق"، كلما استعاد معسكر الخروج بأي ثمن، زخمه. كلما هبطت قيمة الباوند، وأغلقت مؤسسات فروعها في المملكة، وأعلنت شركات سيارات إلغاء آلاف الوظائف استعداداً لمرحلة ما بعد أوروبا، كلما اعتقد مزيد من البريطانيين بأن على بوريس جونسون أن يسحب بلدهم من الاتحاد الأوروبي "بأي وسيلة". 54 في المائة من عينة استطلعت آراءها قالت ذلك يوم الاثنين، في مقابل 46 في المائة فقط متمسكون بالبقاء.
شبحٌ ينتاب أوروبا. ليس شبح الشيوعية طبعاً كما تصوّر كارل ماركس في مطلع بيانه. إنه شبح انقلاب قوانين طبيعة الأحوال. الاقتصاد يخسر جولة أمام الأوهام الأيديولوجية.