الانتخابات التركية في المنظور الأردني
لا تظهر أي مؤشّرات أو إشارات تكشف عن طبيعة الموقف الرسمي الأردني في المعركة الانتخابية الوشيكة في تركيا، وفي الوقت الذي يحظى فيه الرئيس رجب طيب أردوغان بشعبية جارفة وكبيرة في استطلاعات الرأي الأردنية، وكذلك الأمر تركيا في عهده، إذ تعدّ الأكثر شعبية في هذه الاستطلاعات، فإنّ هنالك انقساماً ملحوظاً في أوساط النخب السياسية على وقع ما حدث سابقاً في الربيع العربي بين الإسلاميين (يؤيدون أردوغان بقوة) من جهة، واليساريين والقوميين المؤيدين للنظام السوري (يؤيدون المعارضة وتحالف الطاولة السداسية، ويتمنّون نهاية عهد أردوغان وحزب العدالة والتنمية هناك) من جهةٍ أخرى.
شكّل الربيع العربي منعطفاً كبيراً في العلاقة بين البلدين؛ عندما تحوّل الموقف التركي بوضوح تجاه المنطقة ليأخذ مساراً مختلفاً في دعم قوى التغيير والثورة، بخاصة التيارات الإسلامية والرهان عليها، ما أقلق الأردن والدول المحافظة العربية وأوجد حالة من العداء غير المباشر وعزّز الشكوك والقلق الأردني من الدور الإقليمي التركي الجديد، وأصبحت تركيا تمثل مصدراً مزعجاً للسياسات الأردنية إقليمياً ومحلياً، على قاعدة العلاقة بين الأتراك والإسلاميين عموماً، وباتت القناعة الرسمية الأردنية ترى في تركيا مركزاً جديداً، وبديلاً، من طهران للحركات الإسلامية، بخاصة عندما تراجعت علاقة طهران حينها بالقوى الإسلامية السنّية الرئيسية، وفي مقدّمتها حماس بسبب الثورة السورية 2011.
ولم تقف الشكوك الأردنية الرسمية تجاه تركيا عند حدود الإسلاميين السلميين، بل تعدّاه إلى وجود رأي في الأوساط الرسمية يربط بين السياسات التركية وصعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسورية، خلال الفترة 2014-2017، بسبب فتح الحدود التركية للمتطوّعين القادمين من مختلف العالم للانضمام إلى "داعش"، وفق الدعوى الأردنية.
بدأت المرحلة الجديدة بصورة كبيرة منذ عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وبدأت العلاقات تأخذ مساراً جديداً على أكثر من صعيد، سواء الشخصي بين الرئيس أردوغان والملك عبد الله الثاني، اللذين تبادلا الزيارات واللقاءات، وظهرت علاماتُ دفء في العلاقة بينهما، ثم على المستوى الدبلوماسي، بخاصة مع إعلان الأميركيين صفقة القرن، وقبل ذلك نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وبروز محور دولي إقليمي جديد، حينها، يتشكل من الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات والسعودية، فوجد الأردن نفسَه محاصراً وضعيفاً، مع الفراغ الاستراتيجي العربي. ويتذكّر كثيرون كيف أن الملك عبد الله الثاني شارك بقوة وبفعالية في المؤتمر الإسلامي الذي عقده أردوغان حينها لرفض نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
اشتركت تركيا خلال الأعوام الماضية بقوة مع الأردن في الجهود الدبلوماسية ضد الممارسات الإسرائيلية، وفي مواجهة إدارة ترامب. ولكن العلاقات الثنائية بدت، مع عودة الديمقراطيين ومجيء إدارة جوزيف بايدين، التي لا تقل خلافاتها مع الأتراك عن خلافات الجمهوريين، وكأنّها عادت خطوة إلى الخلف، نتيجة تحالف الأردن مع الغرب، بخاصة مع الحرب الروسية - الأوكرانية وبروز دلالات واضحة على تقارب تركي - روسي في العامين الماضيين.
من الواضح أن المسؤولين الأردنيين يتجنّبون أي رسائل في الانتخابات التركية. ومن الواضح أنّ هنالك اعتبارات متضاربة في تفضيلات السياسة الأردنية؛ فمن جهةٍ يمثل أردوغان حليفاً شرساً وقوياً، ويحسّن من موازين القوى في مواجهة صعود اليمين الإسرائيلي، ودعم الموقف الأردني في فلسطين. ومن جهةٍ أخرى، ينظر إليه بوصفه حليفاً للإسلاميين (والأردن الرسمي خصم لهذه القوى السياسية)، وكذلك يفضل الأردن علاقاته الدافئة مع أوروبا وأميركا على التحالف مع أردوغان.
على الجهة المقابلة، لو فازت المعارضة التركية وانتهى عهد الرئيس أردوغان وتراجع حزبه السياسي، فهل يخدم ذلك المصالح الاستراتيجية الأردنية؟ الجواب: على النقيض من ذلك، فهو يضعف الموقف الأردني، بخسارة قوة إقليمية، معتدلة نسبياً، وقريبة من الخطاب الدبلوماسي الأردني في مواجهة اليمين الإسرائيلي في قضية حيوية وأساسية للأمن الوطني الأردني. ففي أوزان المصالح، يمثل الموقف التركي الحالي في الموضوع الفلسطيني الاستراتيجي للأردن عاملاً داعماً بقوة، وسيؤدّي مجيء المعارضة إلى خسارته، بينما الخلافات والقضايا الأخرى تعدّ ثانوية معه!