الانتخابات الرئاسية التونسية... مناخات سوريالية

20 سبتمبر 2024

تونسيون يطالبون في العاصمة بسيادة القانون وإلغاء المراسيم القمعية (13/9/2024 الأناضول)

+ الخط -

عرفت تونس 11 محطّة انتخابية رئاسية، أربعٌ منها فاز فيها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بنسبة 100%، وخمسٌ كان الفوز فيها لصالح خلفه زين العابدين بن علي، وتراوحت نسب الفوز بين 100% سنتي 1989 و1994 وهي النسبة الأعلى، و89.45% سنة 2009 وهي النسبة الأدنى. كانت تلك المحطّات الانتخابيّة معلومة النتائج سلفًا وموصومةً بالتزوير، غَلب عليها اقتصار الترشّح على شخصِ الرئيس، وإذا سُمح بالتنافس (السنوات 1999 و2004 و2009)، فبغرض الديكور الانتخابي ولعب دور الكومبارس، فهي مجرّد بيعة لتجديد عهدة هذا الرئيس أو ذاك. 

ومن مقتضيات البيعة دعوة الناخبين في اليوم الموعود وإعداد صناديق الاقتراع وإقامة الحفل الانتخابي بحضور صحافيين من الإذاعة والتلفزيون الوطنيين ومن صحيفة الحزب الدستوري الحاكم، وعادةً ما ينتهي ذلك الحفل بإعلان نسبة الفوز في العناوين الأولى لنشرات الأخبار، وبالخطِّ العريض على الصفحاتِ الرئيسيّة للصحف والدوريات المحليّة ونظيراتها العربيّة والدوليّة التي اعتادت الاعتياش من سخاء الدولة التونسيّة. 

قطعت العشرية الديمقراطية 2011 - 2021 مع هذا كلّه، ففي أثنائها عرفت الحياة العامة التونسيّة مناسبتين انتخابيتين رئاسيتين، الأولى سنة 2014، تبارى فيها 27 مترشّحًا وانتهت بفوز الباجي قائد السبسي في الدور الثاني بنسبة 55.68%، والثانية سنة 2019، تنافس فيها 26 مترشّحا، وفاز بكرسي الرئاسة فيها في الدور الثاني الرئيس الحالي قيّس سعيّد بـ72.71%. ميزة نتائج كلا المحطّتين الانتخابيتين الرئاسيتين فوز مترشّحين من خارج كرسي الحكم  (الرئاسة والحكومة)، والاعتراف بالنتائج من كلِّ المترّشحين والقبول بها بعد عرسيْن انتخابيين مُميّزيْن، ومناظرات تلفزيونية على طريقة الديمقراطيات العريقة في العالم، وإشادة من المجتمعين الحزبي - السياسي والمدني - النقابي التونسيين، وتغطية إعلاميّة نموذجية قوامها حريّة الاعلام والصحافة والاتصال والتدوين، وشفافيّة ونزاهة انتخابيتين أمنتهما الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات برئاسة شفيق صرصار ونبيل بفون وإشادة دولية بالديمقراطية التونسية والدعوة إلى اعتمادها نموذجًا يحتذى، عربيًا على الأقل. 

دوس على أحكام المحكمة الإدارية

بعد أن قرّرت الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات في تونس قبول ثلاثة مترشّحين لخوض الانتخابات الرئاسيّة، من بين 17 تقدّموا بملفاتهم للهيئة، الأمين العام لحزب عازمون (ليبرالي من أصول تجمعية دستورية)، العياشي زمّال، والأمين العام لحركة الشعب (قومية عربية)، زهير المغزاوي والرئيس الحالي والمرشّح المستقلّ قيس سعيد، قبلت المحكمة الإدارية، وهي هيئة قضائية جعل منها القانون الانتخابي التونسي لسنة 2014 في فصله عدد 24  صاحبة اليد العليا في النزاعات الانتخابيّة، فأجبر الهيئة المستقلّة للانتخابات على أن "تتولى تنفيذ القرارات الصادرة عن الجلسة العامة القضائية للمحكمة الإدارية شرط توصّلها بالقرار أو بشهادة في منطوقه". قبلت طعون ثلاثة مترشّحين آخرين، هم منذر الزنايدي، مترشّح مستقل ووزير سابق في حكومات الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وعبد اللطيف المكي، قيادي سابق في حركة النهضة الإسلامية والأمين العام لحزب العمل والإنجاز، وعماد الدايمي، النائب السابق ومدير الديوان الرئاسي للرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، إلا أنّ أحكام المحكمة الإداريّة، بإرجاع المترشّحين الثلاثة إلى السباق الانتخابي، وهي باتّة ولا تقبل النقض والتبديل والتجاهل وعدم التطبيق وفق القوانين الانتخابية التونسية، فضحت عدم مهنيّة الهيئة الانتخابية وافتقارها للدقة والشفافية، ذلك أنّ قبول المترشحين الثلاثة جاء بعد مسح جدّي لملفاتِ المعنيين من قضاة المحكمة، والتأكد من أنّ إسقاط تلك الملفات يعود إلى خللٍ في عمل الهيئة، وليس إلى ما قد تكون عليها تلك الملفات من نقصان وما قد تحتويه من ثغراتٍ قانونيّة، ومن ثمّة نزعت عنها مصداقيتها، ليتأكّد ما يتداوله الرأي العام أنّ إسقاط مترشحين عديدين من السباق السياسي لا يرجع إلى خللٍ قانوني، وإنّما يعود إلى تنفيذ الهيئة الانتخابية تعليمات سياسية، وليثبت دوس الهيئة القانون الانتخابي ونظيره القانون عدد 40 لسنة 1972 المتعلّق بالمحكمة الإدارية في الفصل 41 "توجّه كتابة المحكمة نسخة من القرار القاضي بتأجيل التنفيذ أو توقيفه إلى الأطراف خلال الأربعة والعشرين ساعة الموالية للتصريح به. وعلى الجهة الإدارية المصدّرة للمقرّر المطعون فيه أن تعطّل العمل به فور اتصالها بالقرار القاضي بتأجيل التنفيذ أو توقيفه. وهذه القرارات تحفظيّة، ولا تقبل أي وجه من أوجه الطعن، ولو بالتعقيب".

أحدث قرار هيئة الانتخابات التونسيّة بإسقاط ثلاثة مترشّحين ما يشبه الانتفاضة في أوساط النخب

أحدث قرار هيئة الانتخابات التونسيّة بإسقاط المترشّحين الثلاثة ما يشبه الانتفاضة في أوساط النخب التونسية النقابية والمدنية والجامعية والسياسية الحزبية وغير الحزبية، فقد اعتبرت الهيئة الإدارية الموسّعة للاتحاد العام التونسي للشغل، في بيان أصدرته يوم 2 سبتمبر/ أيلول الجاري، "هذا القرار، بغضّ النظر عن الأسماء المترشّحة ودون انحياز إلى أحد، تأكيدًا على غياب المناخ الملائم والشروط الضرورية لانتخابات ديمقراطية وتعدّدية وشفّافة ونزيهة"، ونبّهت "إلى أنّ مثل هذه القرارات تكرّس النهج الانفرادي والتسلّطي، ولا تزيد الوضع إلا انغلاقًا وتوتّراً والتحذير من التمادي فيه ومن عواقبه على البلاد". ونبّهت جمعية القضاة التونسيين، في بيانها المؤرخ في الثالث من الشهر  نفسه، "إلى خطورة القرار الذي اتخذته الهيئة بعدم الإذعان لقرارات المحكمة الإدارية لما يمثله من نسف لجوهر دولة القانون، ولما يعنيه من إلغاء غير مسبوق لدور القضاء في النزاع الانتخابي"، داعية "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إلى التراجع عن موقفها المعلن عنه وتطبيق أحكام المحكمة الإدارية النافذة والباتّة دون أي اجتهاد أو تلكؤ احتراما لدولة القانون وسيادته ولقيم الديمقراطية ولموجبات الاختصاص الموكلة إليها في الإشراف على المسار الانتخابي بكل نزاهة وأمانة وحياد".

الصورة
احتجاج أمام مقر الهيئة العليا للانتخابات في العاصمة تونس في 2/9/2024 (Getty)
تونسيون يتظاهرون أمام مقر الهيئة العليا للانتخابات في العاصمة  (2/9/2024 Getty)

وذهب أكثر من مائة أستاذ من أساتذة القانون والعلوم السياسية في الجامعات التونسيّة المذهب نفسه بتوقيعهم بياناً في الخامس من شهر سبتمبر/ ايلول الجاري، يحمل عنوان "بيان أساتذة القانون والعلوم السياسية دفاعا عن دولة القانون وجوب التزام هيئة الانتخابات بالأحكام الصادرة عن الجلسة العامة للمحكمة الإدارية". تضمّن موقفاً قانونياً وأكاديمياً لا لبس فيه ينتصر للمحكمة الإدارية ويطالب هيئة الانتخابات التزام القانون، وجاء فيه "إن الأحكام الصادرة عن الجلسة العامة للمحكمة الإدارية هي أحكام باتّة وغير قابلة لأي وجه من أوجه الطعن ولو بالتعقيب، وهي واجبة التنفيذ ولا يجوز لأي جهة أخرى مهما كانت إعادة النظر فيها أو مراجعتها أو تأويلها أو الامتناع عن تنفيذها"، موضّحاً أن "تعليل الهيئة لقرارها باستحالة تنفيذ قرارات الجلسة العامة للمحكمة الإدارية لعدم تبليغ المحكمة للأحكام الصادرة عنها لا يستقيم حيث إن المحكمة قد قامت بتبليغها بمنطوق الحكم طبقا لمقتضيات الفصل 24 من قرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عدد 18 لسنة 2014 المؤرخ في الرابع من أغسطس/ آب 2014، والذي جاء موضحاً لمقتضيات الفصل 47 من القانون الانتخابي المتعلّق بطرق تبليغ المحكمة الإدارية قراراتها للهيئة، والذي أجاز الإعلام إمّا بالقرار أو بشهادة في منطوقه، بما لا يمكن معه الاحتجاج بعدم التوصل بنص الحكم للتملص من تنفيذه". ويخلص البيان إلى "إن امتناع الهيئة الانتخابية عن تنفيذ أحكام الجلسة العامة للمحكمة الإدارية والتعلل بأنّ الأحكام لم تقض بصفة واضحة وصريحة بإدراج المترشحين الطاعنين بالقائمة النهائية للمترشحين للانتخابات الرئاسية بل كانت أحكاما موقوفة على شرط تثبت الهيئة من تمتع المترشّحين المرفوضين بجميع حقوقهم المدنية والسياسية، كما جاء في بيان الهيئة، يُمثل خرقا فادحا للشرعية ينحدر بقرارها إلى مرتبة القرار المعدوم".

إجماع من فرقاء الأيديولوجيا والسياسة على التنديد وإدانة ما أتته هيئة الانتخابات من عدم تطبيق أحكام المحكمة الإدارية

سياسياً، هناك إجماع من فرقاء الأيديولوجيا والسياسة على التنديد بما أتته هيئة الانتخابات من عدم تطبيق أحكام المحكمة الإدارية الباتّة، وحرمان ثلاثة مترشّحين من خوض السباق الانتخابي الرئاسي وإدانته. وعبّر عن هذا الموقف حزب التيار الديمقراطي (يقبع أمينه العام السابق غازي الشواشي بالسجن وقد منع من حقّه في الترشّح للانتخابات الرئاسية)، وذلك في بيان مجلسه الوطني في التاسع من سبتمبر/ أيلول من السنة الجارية، بالقول "يدين بشدّة تمرّد هيئة الانتخابات المعينة على قرارات الجلسة العامّة للمحكمة الإدارية في مخالفة فجة للقانون الانتخابي وللقرارات الترتيبية التي وضعتها الهيئة نفسها وبإجماع كل المختصين في القانون".

الصورة
الانتخابات الرئاسية التونسية
تونسيون يتظاهرون في العاصمة مطالبين بسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات وإلغاء المراسيم القمعية (13/9/2024 الأناضول)

واعتبر الحزب الجمهوري، الذي يقبع أمينه العام عصام الشابي في السجن، وقد مُنع من حق الترشّح، في بيانه الصادر في 3 سبتمبر/ أيلول الجاري، أنّ "رفض مجلس هيئة الانتخابات تنفيذ الأحكام النافذة للجلسة العامة للمحكمة الإدارية - غير القابلة للطعن وواجبة التنفيذ باعتبارها الجهة القضائية المختصة بالرقابة على كل مراحل العملية الانتخابية - يعدّ جريمة موجبة للتّتبع الجزائي على معنى الفصل 315 من المجلة الجزائية، والفصل الثاني من القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين"، وأن "هذه الجريمة المرتكبة تعد دليلاً إضافياً على رغبة سلطة الاستبداد في إغلاق باب التداول السّلمي على السّلطة نهائياً وتنظيم انتخابات صورية بدون تنافس وبدون رهان بغاية تجديد البيعة لمن فقد شرعيته السياسية منذ أن فتح أبواب السجون والمنافي لمنافسيه ومعارضيه". 

وفي بيان صادر عن مكتبها التنفيذي في الرابع من سبتمبر/ أيلول الجاري، اعتبرت حركة النهضة، التي يقبع جلّ قادتها في السجن، "أن رفض هيئة الانتخابات للقرارات النهائية والباتّة للمحكمة الإدارية بخصوص إعادة المرشّحين الثلاثة للسباق الانتخابي إنما هو خرق للقانون وانتهاك لدور السلطة القضائية في النزاعات الانتخابية، وانحياز تام لمرشّح بعينه، ومحاولة للتحكّم في نتائج الانتخابات". 

كان الرأي العام الحقوقي والديمقراطي يعوّل على هيئة المحاماة التونسيّة في أن تكون وفية لإرثها الحقوقي التاريخي، لكنها جبُنت هذه المرّة

وفي السياق والتوجّه نفسه، جاء موقف حزب المسار الاجتماعي الديمقراطي (الحزب الشيوعي التونسي سابقا)، في بيانه في التاسع من سبتمبر/ أيلول، معتبراً "امتناع هيئة الانتخابات عن تطبيق الأحكام الباتّة وغير القابلة للطعن الصادرة عن الجلسة العامة للمحكمة الإدارية، علاوة على حرمانه عدداً من المترشّحين من حقهم القانوني والدستوري في الترشّح وحق الناخب في منافسة تعدّدية حقيقية، وفي حرية اختيار مرشّحه لرئاسة الجمهورية، فإنه يمثل سابقة خطيرة وغير مسبوقة تضرب في العمق مصداقية العملية الانتخابية برمّتها، ومن شأنها أن تفقد التونسيات والتونسيين الثقة في دور ومكانة المرفق القضائي، وهي عملية هدم ممنهج لمؤسّسات الدولة وضرب لمبدأ علوية القانون".

وعبّرت حركة الشعب في بيانها يوم 2 سبتمبر/ أيلول، وهي الحركة التي يعدّ أمينها العام ثاني ثلاثة قبلت هيئة الانتخابات ترشّحهم، عن "رفضها لعدم امتثال الهيئة العليا للانتخابات لقرارات المحكمة الإدارية التي تمثل الجهة الوحيدة المخولة بحل النزاعات في مادة الانتخابات والتي تكون الهيئة طرفا فيها. وهو ما يؤشر إلى أن الهيئة المذكورة لن تتورع في قادم الأيام عن ارتكاب مثل هذا التجاوز في حالة حدوث نزاعات أخرى في هذا الاستحقاق الانتخابي"، منبّهةً إلى "التبعات الخطيرة التي ستترتب حتما عن مثل هذا السلوك الذي أقدمت عليه هيئة الانتخابات والذي لا يقود فقط الى التشكيك في نزاهة ومصداقية هذا المسار، بل قد يهدّد بنسفه برمته. مع ما يتضمنه ذلك من مجازفة بالسلم الأهلي وبأحد أهم المكاسب التي حققها شعبنا بعد ثورة 17 ديسمبر".

لقد استندت كلّ هذه القوى المدنيّة والسياسيّة والنخب الجامعيّة في تأييدها أحكام المحكمة الإدارية المنصفة لثلّة من المترشّحين الذين أقصتهم هيئة الانتخابات، لدواع سياسية بيّنة وجلية بوصفهم منافسين جدّين للرئيس قيّس سعيّد، إلى ما ورد في القانون الانتخابي من إعطاء كلمة الفصل في النزاعات الانتخابيّة للمحكمة الإدارية وليس للهيئة، وعلى فقه القضاء الإداري وأحكامه التي قبلت بها هيئة الانتخابات بدون أي استثناء منذ انبعاث تلك الهيئة سنة 2011، بما في ذلك الأحكام المتعلّقة بالنزاعات الانتخابيّة في انتخابات مجلس نواب الشعب 2022-2023 والمجلس الوطني للجهات 2023 - 2024.

بينما جاء موقف الهيئة الوطنية للمحامين بتونس في بيان مجلسها المؤرّخ في الخامس من سبتمبر/ أيلول 2024 شاذّاً عن مواقف مختلف القوى المدنية شريكة التاريخ النضالي ضد الاستبداد والحرمان من الحقوق، وعلى راسها الحقوق السياسية وحقّ الترشّح. اكتفى بيان "حماة الحقوق" في نقطتيه السادسة والسابعة بالتحذير "من تبعات الجدل والسجال الحاصل بين الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات والمحكمة الإدارية لمساسه بهيبة الدولة وثقة المواطن فيها"، والتنبيه إلى "خطورة هذا السجال والخلاف والتراشق الإعلامي على السلم الاجتماعي"، ما جعل منه بياناً هزيلاً يعكس عجزاً عن الانحياز إلى حقّ الترشّح الذي داسته هيئة الانتخابات، وأعادته إلى أصحابه المحكمة الإدارية، فقد كان الرأي العام الحقوقي والديمقراطي يعوّل على هيئة المحاماة التونسيّة في أن تكون وفية لإرثها الحقوقي التاريخي، لكنها جبُنت هذه المرّة وتجنّبت الوقوف في الصف المناسب، صفّ الدفاع عن الحقوق والحريات.

مناخات سوريالية

لا تعود سورياليّة مناخات الانتخابات الرئاسيّة التونسيّة والقفز على الواقع بما يتخطّى كلّ سلوكٍ منطقي وتفسير عقلاني فقط إلى تغوّل هيئة الانتخابات التونسية وتحوّلها إلى ما يشبه "الشرطة الانتخابية" التي تستخدمها السلطة الحاكمة لتنفيذ اختياراتها وبرامجها وإقصاء من ترغب تلك السلطة في إبعاده عن الترشّح، حتى باتت طائفة من التونسيين تطالب بإعادة الإشراف على الشأن الانتخابي إلى وزارة الداخليّة، وإنّما هو متأتٍّ ممّا تعرفه الحياة السياسيّة والانتخابيّة التونسيّة من وقائع وتطورات يوميّة هي أقرب إلى أفلام الخيال السياسي، ما يحول دون مقارنته بما عرفته تونس من استبداد تاريخياً، وما شهدته من تجارب أنظمة مستبدّة من تنكيل بمعارضيها، فلم يحدُث أن تحوّلت الانتخابات الرئاسيّة التونسيّة إلى مصيدةٍ للسياسيين الذين عبّروا عن رغبتهم في الترشّح للمنصب الرئاسي، وانخرطوا في إجراءاتِ الترشّح. 

تضمّ القائمة الطويلة كلّ من عبّر عن ترشّحه من داخل السجن، مثل رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق للتيار الديمقراطي غازي الشواشي، ومن أودع السجن بسبب إعلانه الترشّح على غرار لطفي المرايحي الأمين العام لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، ومن لُوحق قضائيًا مثل رئيس حزب الائتلاف الوطني ناجي جلول. ومن مظاهر سورياليّة المشهد الانتخابي التونسي وعبثيته الحكم استئنافيًا، قبل يومين من انطلاق الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة في الخارج وقبل أربعة أيام من انطلاقها بالداخل على مجموعة من المترشّحين منهم من سحب ترشّحه، ومنهم من أنصفته المحكمة الإداريّة، بثمانية أشهر سجناً والمنع من الترشّح مدى الحياة، ويتعلّق الأمر بنزار الشعري ومراد المسعودي وليلى الهمامي وعبد اللطيف المكي. ومن المفارقات أنّ الحكم على المكّي جرى في اليوم الذي أصدرت فيه المحكمة الإدارية "قراراً في الشرح في مادة النزاع الانتخابي باسم الشعب التونسي"، خلاصته "قبول مطلب الشرح واعتبار أن المقصود من منطوق القرار المراد شرحه إدراج الطاعن (عبد اللطيف المكّي) في قائمة المترشّحين المقبولين نهائيا للانتخابات الرئاسية ليوم 6 أكتوبر 2024". 

لم يحدُث أن تحوّلت الانتخابات الرئاسيّة التونسيّة إلى مصيدةٍ للسياسيين الذين عبّروا عن رغبتهم في الترشّح للمنصب الرئاسي، وانخرطوا في إجراءاتِ الترشّح

لم تتوقف سوريالية المشهد الانتخابي التونسي عند تلك الحدود والممارسات الغريبة عن الإرث الانتخابي التونسي في زمني الاستبداد 1956-2011 وعشرية الثورة التونسية 2011-2021، وإنّما بلغ مداه وأوجه من التنكيل في ما يتعرّض له العياشي الزمال أوّل ثلاثة المترشّحين المقبولين من هيئة الانتخابات. دخل الزمال، رجل الأعمال والنائب السابق (2019-2021) عن حزب تحيا تونس والأمين العام الحالي لحزب عازمون، في وضعيّةٍ سياسيّةٍ مأساويةٍ، فبدلًا من تمكين الرجل من إعداد حملته الانتخابيّة ووضع برنامجه الانتخابي وتشكيل فريق حملته، تحوّل إلى مبحوث قار بمراكز بحث البداية ولدى قضاة التحقيق في محاكم تونس 2 ومنوبة وجندوبة وسليانة بعدما أحيل في 25 قضيّة متعلّقة بتزوير التزكيات، وصدرت في حقّه خمس بطاقات إيداع بالسجن، ولم تسلم القاضية التي أبقته في حالة سراح بمحكمة منوبة من التعسّف، فقد تمّ نقلها عقابيًا إلى محكمة الكاف بالشمال الغربي التونسي والتخفيض من رتبها المهنية التي اكتسبتها على مدى عشرات السنين. ولم ينج من مناخات التخويف والتلويح بالمتابعة القضائية المترشّح زهير المغزاوي الأمين العام لحركة الشعب وثاني ثلاثة مقبولة ترشّحاتهم من الهيئة الانتخابية، وبدت هذه الخشية واضحة عند مقارنة ما نشره من فيديوهات تضمنت في البداية حدّة في الخطاب ونقدًا شديدًا للرئيس قيّس سعيد وتجربة حكمه، واصفًا إياها بالفشل وبالانتقال من السيّئ إلى الأسوأ إلى تخفيض تلك النبرة في الفيديو الذي نشره يوم 11 سبتمبر/ أيلول الجاري، وما تلاه من حواراتٍ تلفزيونية أجرتها معه قنوات عربية وأجنبية، مكتفيًاً بدعوة التونسيين إلى عدم الخوف، وإثارة قضايا عامة متعلّقة بالتعليم والنقل بمناسبة العودة المدرسيّة ودعوة الرئيس سعيّد إلى مناظرة تلفزيونية.

لا مراقبة جدّية إعلامية ومدنية

ربط عمل استقصائي نشره موقع نواة في الخامس من يناير/ كانون الثاني 2024 بعنوان "سرطان التسلط يحكم على (الهايكا) بالموت البطيء"، بين مضمون المراسلة التي توجّهت بها الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري (الهايكا)، إلى السلطة التنفيذية والتشريعية يوم 25 مايو/ أيار 2023، دعت من خلالها الحكومة والبرلمان إلى تحمّل مسؤولياتهما في ما آل إليه الوضع من "انتكاسة حقيقية وتراجع واضح عن أهم مكتسبات الثورة وهي حرية التعبير والصحافة"، إلى جانب الانتقادات الموجّهة إلى المرسوم 54 وتوظيفه "كأداة لتكميم الأفواه وإعادة إنتاج ثقافة الخوف والرقابة الذاتية"، وقرار الحكومة إيقاف أجور أعضاء مجلس الهايكا في مطلع يناير/ كانون الثاني من السنة الجارية، وإنهاء دورها بالكامل على خلفية انتمائها إلى العشرية السابقة علاوة على كونها تستمدّ شرعيتها من دستور 2014. مثّل ذلك الإجراء تمهيدًا للطريق أمام هيئة الانتخابات التونسية للهيمنة على الإعلام والاتصال الانتخابيين في إطار ما تسميه تلك الهيئة الولاية الكاملة على الانتخابات.

وضمن هذا السياق، يتنزّل التنبيه الذي وجهته الهيئة الانتخابية يوم 31 يوليو/ تموز 2024 لإذاعة موزاييك إف إم الخاصة على خلفيّة تصريحات الصحافيتين ببرنامج ميدي – شو، كوثر زنطور وآسيا العتروس، معتبرةً أنّ في تلك التصريحات خرقًا لقواعد وضوابط الفترة الانتخابيّة. وتكرّر الإجراء نفسه مع إذاعة أكسبرس إف إم بالتنبيه عليها من هيئة الانتخابات، وذلك في السادس من سبتمبر/ أيلول الجاري، معتبرةً أنّه جرت الإساءة لرئيس الهيئة من أحد ضيوف الراديو الخاص المذكور.

ما تقوم به الهيئة من إقصاء يصنّف ضمن الترهيب الانتخابي والاستهتار بالانتخابات

وفي يوم 20 أغسطس/ آب 2024 قرّرت هيئة الانتخابات سحب اعتماد الصحافية ورئيسة تحرير موقع "توميديا" الإخباري خولة بوكريم وطالبتها بإعادته، وذلك وفق تدوينة للصحافية المذكورة على صفحتها في منصّة فيسبوك. بررّت الهيئة قرارها بـ"إخلال الصحافية بالواجبات المحمولة عليها والمنصوص عليها بالفصل 8 من قرار هيئة الانتخابات عدد 10 لسنة 2014 المؤرخ في 9 يونيو/ حزيران 2014 وخاصة عدم احترام واجب تأمين تغطيّة إعلاميّة موضوعيّة ومتوازنة ومحايدة للمسار الانتخابي وعدم التقيّد بالقانون الانتخابي ومدونة السلوك وعدم احترام قواعد وأخلاقيات المهنة". وهو ما رفضته النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين في بيانها المؤرخ في 21 أغسطس/ آب المنقضي بعنوان "لا للحد من حرية التعبير .. لا للوصاية على الإعلام"، معبّرةً عن "إدانتها ورفضها التام لقرار هيئة الانتخابات السالف الذكر واعتبرته قرارا مزاجيا يدخل في خانة تصفية الخطاب الناقد لعمل الهيئة وللمسار الانتخابي ومواصلة لسلسلة من الأخطاء الفادحة التي قامت بها الهيئة منذ انطلاق المسار الانتخابي"، وخاصة أنّ الصحافية بوكريم عُرفت بدقة واستمراريّة متابعتها لأنشطة هيئة الانتخابات والوقوف على أخطائها وتجاوزاتها والثغرات التي تصاحب أنشطتها والعمل على كشفها للرأي العام.

الصورة
الانتخابات الرئاسية التونسية
تونسي يصوّت في الانتخابات المحلية في العاصمة (4/2/2024 الأناضول)

اتّخذت هيئة الانتخابات الموقف الإقصائي نفسه من جمعية "مراقبون" ورفضت 1220 مطلب اعتماد في خطة ملاحظ في الانتخابات الرئاسيّة القادمة بتعلّة إشعار الهيئة من جهاتٍ رسميّة بتلقي تمويلات أجنبية مشبوهة بمبالغ مالية ضخمة، والحال أنّ هذه الجمعية التي تأسّست سنة 2011 قامت بمراقبة كافة الانتخابات التونسيّة الرئاسيّة والتشريعيّة بعد سقوط نظام بن علي بما في ذلك الانتخابات الرئاسيّة التي فاز فيها قيّس سعيّد سنة 2019 وانتخابات مجلس نواب الشعب سنة 2022-2023 والمجلس الوطني للجهات والأقاليم سنة 2023-2024 التي تمّ تنظيمها وفق ما جاء في دستور 2022، بدون أيّ تحفظات تجاه نشاطها الرقابي المتميّز بالحرفيّة والنجاعة من أجل ضمان "انتخابات حرّة، نزيهة وشفافة في تونس"، وفق بلاغ للجمعية أصدرته يوم 12 من الشهر الجاري تردّ فيه على اتهامات الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بتلقي تمويلات أجنبية مشبوهة.

تمهيد الطريق لفوز الرئيس

يستخلص من التمشّي الانتخابي أنّ الانتخابات الرئاسيّة التونسيّة التي ستنتظم في السادس من أكتوبر/ تشرين الأوّل القادم هي عنوان أزمة سياسيّة عميقة تبرز بعض ملامحها في النزاعات الانتخابيّة وما تقوم به السلطة الحاكمة من حرمان منافسي الرئيس سعيّد من الترشّح بالوسائل القضائيّة وبكافة أدوات التضييق الممكنة. وفي هذا الإطار، لعبت هيئة الانتخابات دورًا مركزيًا في إبعاد أكبر قدر من المترشّحين المنتمين إلى تياراتٍ سياسيّةٍ ذات وزن انتخابي، ممهّدة بذلك الطريق أمام فوز الرئيس الحالي قيّس سعيّد. إنّ ما تقوم به الهيئة من إقصاء رغم الأحكام النافذة للمحكمة الإدارية، ومن تضييق على ما تبقّى من المترشّحين، أحدهم قابع بالسجن دون المطالبة بإطلاق سراحه، يصنّف ضمن الترهيب الانتخابي والاستهتار بالانتخابات بوصفها وسيلة للتداول السلمي على السلطة والحفاظ على السلم الأهلي. وقد بلغ التضييق حدّ منع نشر أسبار الرأي حول الانتخابات ووضع مصفوفة تحدّد أسعار ما يجب اقتناؤه من أغذية وما يستوجب تسويغه من أثاث وتجهيزات ووسائل نقل في الحملة الانتخابيّة التي لا يمكن أن تتجاوز الأموال المرصودة لها من التبرعات الذاتية والخاصة للمترشّح، وبدون تمويل عمومي، وهي 150 ألف دينار فقط (50 ألف دولار)، تنفق في مجتمع انتخابي يتجاوز تسعة ملايين ناخب تونسي. ويفسّر الدارسون سلوك الهيئة الانتخابية وخياراتها بردّ الجميل للرئيس سعيّد صاحب الفضل في تسمية كافة أعضائها وما يتمتّعون به من مزايا مالية وحصانة رمزية ومنح رئيسها رتبة وامتيازات وزير، ناهيك عن أنّ فوز مترشّح آخر غير الرئيس سعيّد سيكون من أوكد أولوياته تغيير تركيبة الهيئة وتبديل رئيسها وقوانينها ونصوصها المنظّمة حتى تحظى بالشرعيّة القانونيّة والمشروعيّة الشعبية. 

تجاوز دور الهيئة الانتخابيّة اليوم المستويات الفنيّة للعمليّة الانتخابيّة ليصبحَ دورًا سياسيًا غير محايد، واضعة نفسها فوق قوانين الدولة التونسية وتشريعاتها ومؤسّساتها الرقابيّة والقضائيّة، متمتّعةً بحماية رئاسيّة، ولها باع في تحديد ملمح الشخصيّة التي سيتم انتخابها انطلاقًا ممّا تضعه من قراراتٍ وإجراءات مُجحفة تلائم مرشّحًا بعينه وتوفّر أسباب فشل الآخرين. والهيئة اليوم هي بمثابة المحكمة التي تعلو قراراتها على أحكام كافة المحاكم التونسيّة، ما أشاع الشعور بالغبن والعجز عن مواجهتها لدى النخب التونسية الفكريّة والسياسيّة والمدنيّة وعموم التونسيين، فمن ذا الذي يجير التونسيين من هيمنة هذه الهيئة على الحياة الانتخابيّة والسياسيّة وتغوّلها وشطط قراراتها بعد عدم امتثالها لأحكام المحكمة الإدارية، آخر قلاع القضاء التونسي المستقلّ؟