الانتقالي الجنوبي اليمني .. تحدّيات السلطة والشراكة
في تحوّلاتها التاريخية من قوى تمثل الشارع، أياً كانت شروط هذا التمثيل، إلى انضوائها في السلطة، تواكب الكيانات السياسية هذه التحوّلات وتكيف أدواتها للتعاطي مع استحقاقاتها، ومن ثم تغادر طابعها البدئي القائم على الصراع والانسياق مع التقلبات التي يفرضها مزاج الشارع وتحوّلاته، وإذا كان المجلس الانتقالي الجنوبي (اليمني)، بوصفه قوة سياسية أنتجتها الحرب والمتدخلون الإقليميون في اليمن، قد مرّ بتحولات عديدة، بما في ذلك انخراطه في حكومة المناصفة، فإن انضواءه في سلطة المجلس الرئاسي، مع القوى الأخرى، يشكّل تحدياً له، فإضافة إلى تعارض مشروعه السياسي مع مرجعيات السلطة الحالية، وما يُحدثه ذلك من تعارض في الأهداف والوسائل، فإنه يواجه تحدّيات تتعلق بهويته السياسية، وثقله العسكري، بما في ذلك مستقبله، فضلاً عن الخيارات التي سيلجأ لها للحفاظ على مكتسباته.
أدّى المجلس الرئاسي، في 19 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) القسم في عدن أمام جلسة عاجلة لمجلس النواب اليمني، ضمت عدداً من أعضائه. وبعيداً عن لا دستوريتها، كشفت الإجراءات التي نظمت مراسم التنصيب عن هشاشة التوافقيات التي يفرضها الحلفاء، إذ كسر المجلس الانتقالي الجنوبي حالة التوافق المزعوم، بحيث أعاد تصدير الكيانات المنضوية في السلطة الجديدة إلى الواجهة، بوصفها قوة لا اندماجية، تتشبث بمكاسبها على حساب أي إطار سياسي جامع. وبالقدر نفسه، كشفت أزمة "الانتقالي" في إدارة علاقته بسلطة بات شريكاً فيها، فقد فشل رئيسه وعضو المجلس الرئاسي، عيدروس الزبيدي، في أول استحقاق سياسي له بوصفه شريكا في السلطة، في تأدية برتوكولات التنصيب، مسقطاً مسمّى النظام الجمهوري والوحدة اليمنية من ديباجة القسم. ومع أن ذلك لا يغير من حقيقة أن القَسم أمام سلطة نيابية انتخبت في ظل دولة الوحدة ونظامها الجمهوري يعني الاعتراف بها، فإن الإرباك السياسي الذي يعانيه "الانتقالي" أعمق من شكلية الالتزام بقَسم سلطة لا دستورية، وذلك بسبب تذبذب مواقفه بين تبنّي مطالب جمهوره والاستجابة لمتطلبات المرحلة، فمن تصريحات رئيسه في أثناء انعقاد مشاورات الفرقاء في الرياض المطالبة بتوحيد مهمات المرحلة في مواجهة جماعة الحوثي واستعادة الدولة اليمنية، إلى تأكيده، أخيرا، على المرجعيات الجنوبية، ومطالبة سلطة المجلس الرئاسي الذي هو طرف فيها تنفيذ الشقّ السياسي من اتفاق الرياض، فضلاً عن مؤشّرات تنازعه مع رئيس السلطة الرئاسية بعض الصلاحيات، ما يوكّد أن التحولات التي وجد "الانتقالي" نفسه في خضمها أكبر من قدرته على التعاطي معها، وإنْ خضع لإملاءات حلفائه الإقليميين.
انضواء المجلس الانتقالي في سلطة المجلس الرئاسي، أتى في سياق تحقيق مطالبه، بما في ذلك إزاحة خصومه
إلى حد كبير، تفرض طبيعة تكوين المجلس الانتقالي الجنوبي، والسياقات التي أفضت إلى تأسيسه في عام 2017، ثقلها على توجهاته، إذ إن قسرية تمثيل الشارع المسنود بقوة عسكرية شكلها الحلفاء تظل محدّدا لخيارته، مع امتصاص مطالب أنصاره، إذ إن تصدير هذا المجلس في الشارع الجنوبي جاء في سياق تصفية قيادات المقاومة الجنوبية التي انخرطت في معارك تحرير مدينة عدن، ومن ثم وراثته لاستحقاقاتها بوصفه قوة شاركت في الحرب، عزّز هذا التمثيل القسري تأسيس الإمارات الأحزمة والألوية العسكرية الموالية له وبتواطؤ السعودية ودعمها، بغرض احتواء القضية الجنوبية، وتحجيم القوى المنافسة له. ونتج عنه خفض مستوى التهديد من القوى التي تنازعه تمثيل الجنوب، وتفرّغه لخوض معارك الاستحقاق السياسي في السلطة، فبعد دورات متعاقبة من المعارك ضد سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي والقوات التابعة لحزب التجمع اليمني للإصلاح فرض اتفاق الرياض صيغة تسوية بين الفرقاء، ضمنت انخراط "الانتقالي" في حكومة المناصفة، إلا أن سياسته قامت على توظيف شراكته في الحكومة لتحقيق مشروعه الانفصالي، وتثبيت سلطته في مناطق الجنوب، إلى جانب التمسّك باستكمال تنفيذ الشق السياسي من اتفاق الرياض وتعطيل الشق العسكري، مقابل التحايل على مسؤوليته في حكومة المناصفة جرّاء انهيار الوضع الاقتصادي، أي اعتماده على تكتيك "داخل السلطة وخارجها معا"، مستفيدا في المقام الأول من عداء حلفائه الإقليميين لسلطة الرئيس هادي. ومع أن هذه الوسائل حققت لهذا المجلس مكاسب كثيرة، بما في ذلك الحفاظ على شعبيته، فإنها لم تعد كافية لمواجهة تحدّيات انخراطه في سلطة المرحلة الجديدة، إذ إن انضواءه في سلطة المجلس الرئاسي الذي شكّل على قاعدة تمثيل مناطقي، شمالي - جنوبي، أتى في سياق تحقيق مطالب الانتقالي، بما في ذلك إزاحة خصومه، إلى جانب أن انضواءه في السلطة يمنحه شراكه في القرار السياسي والعسكري والاقتصادي، ومن ثم يفرض عليه تجاوز شمّاعة تنفيذ الشق السياسي من اتفاق الرياض، وتحمل التبعات المترتّبة على انخراطه في السلطة، حتى وإن كانت مرحلة انتقالية تفضي وفق ضماناتٍ يحصل عليها من حلفائه الإقليميين إلى تقرير مصير جنوب اليمن، فإن هناك إلى جانب المكاسب، خسائر أيضاً.
ما زال "الانتقالي" يراهن على الاستمرار في توظيف أي سلطة ينخرط بها لتحقيق أجنداته
في سياق المكاسب التي حصل عليها المجلس الانتقالي من انضوائه في السلطة الحالية فقد ضَمن المشاركة في مفاوضات الحل النهائي مع جماعة الحوثي، فالمجلس الرئاسي هو السلطة المخوّلة بذلك، كما أن "الانتقالي"، والذي قبل، مع القوى الأخرى، شروط نقل السلطة من الرئيس هادي إلى المجلس الرئاسي، تقاسم المشروعية السياسية لإسناد السلطة الرئاسية، مقابل تمثيله السياسي ومشاركته في كل البروتوكولات، ومن ثم حضور أكبر في المشهدين السياسيين، المحلي والدولي، إلى جانب أن منح "الانتقالي" رئاسة لجنة المصالحة والتشاور المنبثقة عن المرسوم الرئاسي الذي أزاح الرئيس هادي نفسه، وشكّل المجلس الرئاسي تمكّنه من ممارسة دور رقابي وسياسي، ومن ثم الاعتراض على أي إجراءات يتّخذها المجلس الرئاسي لا تصبّ في صالحه، ومع أن "الانتقالي"، كالعادة، ما زال يراهن على الاستمرار في توظيف أي سلطة ينخرط بها لتحقيق أجنداته، والذي تمظهر، أخيرا، في توجيهات عيدروس الزبيدي إلى قائد المنطقة العسكرية الرابعة، اللواء فضل حسن، بتكيلف العقيد عيدروس الشاعري قائدا للواء 39 مدرّع، وهو ما يعد تدخلا في صلاحيات رئيس المجلس الرئاسي، فإن الانخراط في السلطة يحتّم على "الانتقالي" الالتزام بمرجعياتها، أو على الأقل مواءمة خطابه مع هذه التحوّلات، خصوصا إن كان طرفاً شارك في صياغة حيثياتها. ومع أن خضوع هذا المجلس لسلطة تستند مرجعياتها على الحفاظ على الوحدة اليمنية يعني تنازله عن مرجعياته، ولو مؤقتاً، فإنه يفرض عليه القبول بالتوافقية التي ستتشكل وفقها القرارات السياسية، ومن ثم تجنّب توصيفه قوة إعاقة وتعطيل. وإذ كان "الانتقالي" طالما عوّل على بنيته السياسية المناطقية وشعوبية خطابه لانتزاع مكاسب من منافسيه، فإن انخراطه في السلطة الحالية قد يقلص من مساحة المناورة التي كان يتحرّك فيها سابقاً، كما أن أي إجراءاتٍ تلجأ لها سلطة المجلس الرئاسي لتوحيد مؤسسات الدولة في سياق يمني شامل، قد يجرّد "الانتقالي" على الأقل، في الوقت الحالي، من سياسة تنمية كيانات خارج الدولة، إضافة إلى أن تعيين محافظين للمناطق الجنوبية وفق توافق السلطة الرئاسية قد تحرمه من ورقةٍ سياسيةٍ ظلّ يعتمد عليها لضمان تمدّده الجغرافي. كما أن قبول هذا المجلس تحوّل مدينة عدن إلى مقر السلطة الحالية، بأجهزتها الإدارية والسياسية والعسكرية، بما في ذلك عمل مؤسّسات الدولة الموحد، يعني فقدانه مركزه في مدينةٍ طالما خاض حروبا من أجل حسم واحدية سلطته فيها. ومن جهة ثانية، فإن تحوّل عدن إلى عاصمة للسلطة الرئاسية يعني حضورا أكبر للقيادات الشمالية، وهو ما يتعارض مع سياسة "الانتقالي" المعادية للشمال، كما أن عودة قوى شمالية يناصبها العداء قد تخصم من رصيد الولاءات التي يراهن عليها لتقوية مركزه السياسي في عدن، بما في ذلك دخول قوى كان يعارض وجودها إلى مناطق جنوبية أخرى. وإذا كان قبوله مشاركة حزب التجمع اليمني للإصلاح في سلطة المجلس الرئاسي أتى في سياق التماهي مع حالة المصالحة الممسرحة التي أدارتها السعودية والإمارات لتوحيد وكلائها، فإنها تفرض عليه السماح للحزب بمزاولة نشاطه السياسي في مناطق الجنوب، وكذلك الانفتاح على القوى الأخرى، بما في ذلك الجنوبية، ومن ثم التخلي عن أدواته القديمة في تجريم منافسيه.
تعطيل الشقّ العسكري لاتفاق الرياض هو ما ضمن للمجلس الانتقالي التوسّع في بعض مناطق الجنوب على حساب السلطة الشرعية
في الحالات كلها، يظل التزام المجلس الانتقالي الجنوبي بالقرار العسكري لسلطة المرحلة الجديدة، ناهيك عن أولويات توحيد المؤسسة العسكرية، هي أكبر التحدّيات التي سيواجهها مستقبلاً، فباعتباره قوة عسكرية أكثر من كونها سياسية، ارتبطت القوة العسكرية بثقله في المشهد الجنوبي، إلى جانب احتفاظه بإدارة قراره العسكري، وبما يلائم خياراته في كل مرحلة، وإنْ ظلت إزاحة منافسيه الأولوية بالنسبة له لضمان واحدية التمثيل في جنوب اليمن، لا محاربة جماعة الحوثي. ومن ثم، قد تفرض متغيرات المرحلة على "الانتقالي" زجّ قواته العسكرية في حربٍ ضد مقاتلي الجماعة، وفي جبهاتٍ ربما خارج المناطق الجنوبية التي يحرص على الحفاظ على مواقعه فيها. وبالتالي تشتيت قواته، ومن جانب آخر، إذا كان تعطيل الشقّ العسكري لاتفاق الرياض هو ما ضمن للمجلس الانتقالي التوسّع في بعض مناطق الجنوب على حساب السلطة الشرعية، بما في ذلك السيطرة على مقرّ السلطات المحلية، فإن استحقاقات المرحلة قد تقيّد من هذه المكاسب، فمع استحالة المراهنة على قبول "الانتقالي" توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية تحت مظلة السلطة الحالية، فإنها تظلّ ورقة قد يوظفها خصومه ضده، وتهديد له، إذ إن انضواء هذه القوات تحت قيادة سياسية موحّدة يحجّمه سياسياً. وفي ضوء التركيبة العسكرية للأحزمة والقوات التابعة لهذا المجلس، فإن الالتزام بدفع مستحقاتها يعني تحوّل ولاءاتها السياسية إلى الجهة المموّلة. ومع فشله في السيطرة على هذه القوى التي خاضت مواجهاتٍ في شوارع مدينة عدن، فإن دمجها في إطار المؤسسة العسكرية الرسمية يعني انتزاع أهم نقاط قوته أمام خصومه ومنافسيه، حيث ظلت قواته وألويته الذراع التي مكّنته من فرض استحقاقه السياسي والانضواء في السلطة. وعليه، فإن دمجها يعني تحوّله إلى قوة منزوعة الأنياب، كما يحرمه من احتكار تمثيل الجنوب.
ربما من المبكر استكشاف أدوات التعطيل التي ستلجأ لها الكيانات العسكرية والسياسية المنخرطة في سلطة المجلس الرئاسي للحفاظ على مكاسبها، لكن ربما بات المجلس الانتقالي الجنوبي، لأسباب عديدة، الآن أمام اختبار حقيقي لتحديد وجهته المقبلة، الالتزام بأنه طرف في السلطة ومن ثم الامتثال للواقعية السياسية أو الركون لتموضعه الاعتيادي، الاستفادة من مكاسب السلطة مقابل عدم تقديم أي تنازلات، كخيار آمن يجنّبه قدراً من الأضرار.