الانتهاكات الروسية في سورية.. فرصة سانحة للمحاسبة
مع العزلة التي تواجهها روسيا على الصعيد العالمي، فإن فرصة مهمة باتت متاحة لنمط جديد من العمل السياسي والإعلامي والحقوقي، يستثمر حماسة الغرب والمؤسسات القانونية الدولية لمعاقبة موسكو. ومثل هذه الفرصة لم تكن متوقعة قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، فإلى وقت ليس قصيرا، سادت فكرة أن نظام الأسد وداعمَيْه، الروسي والإيراني، قد نجوا بما فعلوه، لكن الوضع الجديد يوفر مناخا واقعيا لتقديم الأدلة الكثيرة المتراكمة بشأن الجرائم التي ارتكبها الجيش الروسي منذ بدء تدخله في سورية عام 2015، وارتكابه عمليات جوية واسعة النطاق ضد مدنٍ آهلة بالسكان، واستخدامه أسلحة محرمة دوليا، واستخدامه حصار المدن وتجويع المدنيين وسيلةً للإخضاع وتحقيق أهداف عسكرية.
خلال الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، اعتمد باحثون وسياسيون غربيون، وحتى حقوقيون، على المقارنة بين ما يفعله الروس والفظائع في الحرب العالمية الثانية، لكن هذه المقاربة ما لبثت أن بدأت تتطور، بعدما تنبهت إلى أن هناك نموذجا أكثر قربا، وما زال قائما، يتمثل بسورية وما تضمنته من انتهاكات واسعة، تسببت، حسب إحصاءات أعدتها منظمة Airwars البريطانية، بمقتل نحو 25 ألف مدني سوري، وهو عدد قد يزيد في واقع الأمر عن ذلك بكثير، بالنظر إلى صعوبة التحقق من مقتل ضحايا عديدين.
ظهرت مواقف جادّة انتبهت إلى أن التكتيكات الروسية في أوكرانيا مستوردة من تجربة موسكو في سورية، مع فرق جوهري يتعلق باستغلال الروس التجاهل أو ربما التواطؤ الغربي، ليمارسوا قسوة بالغة مع السوريين تضمنت تجربة نحو 300 نوع جديد من الأسلحة والذخائر، فيما ماطلت المحكمة الجنائية الدولية ثلاث سنوات في التعامل مع شكوى قدمتها شركة محاماة دولية، Stoke White، جمعت كثيرا من أدلة الإدانة ضد النظام السوري وروسيا في سورية.
المحكمة الجنائية الدولية تجاوزت حتى قواعد عملها لتبدأ بمقاضاة روسيا من دون إحالة من مجلس الأمن
يمكن، بالطبع، ملاحظة أن المحكمة الجنائية الدولية قد تجاوزت حتى قواعد عملها لتبدأ بمقاضاة روسيا من دون إحالة من مجلس الأمن، وهو أمرٌ مرتبط بطبيعة التعامل الاستثنائي الغربي لمحاصرة روسيا، والتسبب بأكبر قدر من الضرر لها ولقياداتها، وهو ما شمل كل القطاعات تقريبا، بما فيها الرياضية والثقافية والفنية.
يمكن أن يكون الجهد الذي بذلته تلك الشركة القانونية جزءا من حملة تتوفر لها أدلة كثيرة موجودة بالفعل، ومن المتوقع أن تجد في مناخ الصراع الحالي بين روسيا والغرب رافعة تضعها في واجهة اهتمامات المنظمات الحقوقية الدولية والرأي العام. ومن المرجّح بقوة أن تصدُر بشأنها قرارات واضحة، أو أنها على الأقل ستكون ضمن دائرة التوثيق العالمي للجرائم الروسية، ومسؤولية نظام الأسد في تلك الجرائم.
خلصت أوساط إعلامية وسياسية غربية إلى أن الدرس المهم الذي يمكن تعلمه من التدخل الروسي في سورية هو أنها يمكن أن تقوم بكل شيء بمقدورها، عندما تريد تحقيق نصر عسكري وسياسي واضح، ويشمل ذلك قدرات التدمير واستهداف المدنيين وخداع الرأي العام وتهميش المنظمات الدولية، واستخدام أسلحة عشوائية، وأحيانا محرّمة. لقد جرى ذلك كله في سورية، واليوم فقط يجرى الانتباه إلى ذلك في إطار المقارنات مع الوضع في أوكرانيا.
أصبحت الجرائم الروسية في سورية اليوم في واجهة الاهتمام الغربي
وكانت من بين زوايا مراجعة "الدرس السوري" مقارنة التكتيكات الروسية العسكرية والنفسية في سورية مع ما تقوم به في أوكرانيا، ويشمل ذلك أربعة محاور أساسية: استخدام الأسلحة العشوائية، محاصرة المدن المقاومة، تدمير البنية التحتية المدنية، واستغلال الممرّات الإنسانية للتسبب بمزيد من الأذى للسكان. وفي كل هذه المحاور، كانت سورية ضحية أكبر وأكثر نزفا بكثير مما شهدته أوكرانيا. ويكفي مثلا أن التقارير عن استخدام الأسلحة العنقودية في أوكرانيا لم يسجل إلا في بضع مرات ومناطق، لكن روسيا استخدمت هذا السلاح في سورية 567 مرّة، ما تسبب بمقتل آلاف المدنيين، كما أنه بعد ست سنوات على التدخل الروسي في سورية، كان نحو سبعة ملايين سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية، ويعيشون في مناطق محاصرة أو يصعب الوصول إليها. وتشمل المقارنات أرقاما أكبر للضحايا وحجم الدمار في كل المجالات، بما في ذلك المؤسسات الطبية والتعليمية والبنى التحتية المدنية.
أصبحت كل هذه الجرائم اليوم في واجهة الاهتمام الغربي بعد تجاهلها خلال السنوات الماضية، وسيكون استثمار هذه اللحظة لوضع هذه الجرائم في دائرة التعامل القضائي الدولي أو السياسي من خلال تبنّي المؤسسات الغربية لها، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسيكون هذا التبنّي، بحد ذاته، تطوّرا شديد الأهمية لجهة تأسيس عملية إجرائية خاصة لتحقيق العدالة في سورية، سواء مع روسيا أو النظام أو إيران، وهو لو تحقق سيكون نصرا لإرادة الشعب السوري وإنصافا لضحاياه.
مهمة تحريك الملف السوري ملقاة اليوم على ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، بالإضافة إلى كثير من القوى والشخصيات والهياكل السياسية والقانونية، السورية والصديقة، لهدف تجميع الأدلة وتنظيمها وتشكيل مجموعات عمل للتواصل مع المجتمع الدولي، والسعي إلى إيصال هذه الجرائم الى المنظمات الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحقيق أساس قانوني غير قابل للتغيير، ينهي كل فرص استعادة شرعية النظام، أو إفلات روسيا من عواقب جرائمها في سورية.