البحث عن كريم أحمد خان
يجد المرء الشغوف بالاعتدال في الأقوال والأحكام، المنحاز دائماً إلى الموضوعية في مطلق الأحوال، يجد نفسه مضطرّاً لوضع استدراك قبل الشروع في تناول مسألة تقع خارج نطاق اختصاصه المهني، كمعلّق يكاد يكون خالي الوفاض في كل ما يتّصل بفقه القضايا الحقوقية وعالم القانون الدولي، استدراك مفادُه أنه كان يفضّل أن تُذيّل هذه المطالعة بتوقيع خبير قانون أو ناشط في مجال المنظمات الحقوقية، قادر على وضع النقاط على الحروف بحرفية، والابتعاد ما أمكن عن توجيه التهم ذات الطبيعة السياسية، على نحو ما يلي في الأسطر التالية.
وسط هذه المشاهد المنقولة على مدار الساعة من قطاع غزّة، وفي غمرة هذه التحوّلات الجارية لدى الرأي العام العالمي وفي مختلف الأوساط الدولية إزاء حرب الإبادة الجماعية المتواصلة منذ نحو ستّة اشهر دامية، تغيّرت المواقف وتبدلّت الآراء والتوجّهات ولغة الخطاب حيال جريمة العصر المروّعة، باستثناء موقف مدّعي عام محكمة الجنايات الدولي كريم أحمد خان، الذي هرع ملتاعاً على الفور، ليواسي ذوي القتلى والأسرى من غلاف غزّة، ولم يتحرك بالمقابل قيد أنملة أو ينطق بحرفٍ حيال عشرات آلاف الضحايا من النساء والأطفال الغزّيين، ولم تهزّه أيٌّ من تلك الصور الوحشية المُفزعة.
كان صمت كريم خان المريب هذا محلّ دهشة واستغراب لدى أكثرية الناس في بلادنا العربية، وموضع ارتيابٍ معلن على رؤوس الأشهاد من المرجعيات الحقوقية الوازنة، بمن فيهم آلاف المحامين العرب والأوروبيين، الذين توافدوا إلى لاهاي زرافات، ورفعوا مذكّراتٍ خطيةٍ عديدة، لحثّ مدّعي محكمة الجنايات الصامت صمت أبو الهول على فتح تحقيق أو توجيه اتهام أو غير ذلك من إجراءاتٍ تقع ضمن اختصاص هذه المحكمة، التي كان من المقدّر لها، او للقائم عليها كريم خان، أن يشرب جرعة من حليب السباع، بعد إصدار جارتها الأرفع منزلة، محكمة العدل الدولية، ستة قرارات احترازية ضد استمرار أفظع مقتلة بشرية معاصرة.
ولعلّ السؤال المركزي في هذا السياق الطويل، لماذا يتجاهل كريم خان كل ما يصل إلى مكتبه من مذكّرات عدلية ونداءات مشفوعة بالأدلة الجنائية، ويواصل وضع الطين في أذنه اليمنى والعجين في أذنه اليسرى، ويستطيع هكذا، من دون أي مبرّرات مفهومة، التخلّي عن مقتضيات وظيفته، عن واجباته المنصوص عليها في نظام روما المؤسّس لهذه المحكمة المرموقة، عن مسؤولياته الأخلاقية، عن سمعته المهنية، ويُميت ضميره الإنساني الى هذا الحد، إن لم يكن هذا القاضي البريطاني الجنسية تحت تأثر ضغوطٍ غربيةٍ ثقيلة، وصاحب معايير عدالة مزدوجة سبق لها أن تعرّت تماماً في واقعة فتح تحقيق وتوجيه اتهاماتٍ وإصدار مذكرة إلقاء القبض على الرئيس الروسي غداة غزو بلاده أوكرانيا.
لا أحسب أن هناك حاجة إلى طرح مزيد من الأدلة وعلامات الاستفهام والتعجّب على وجود شبهة ما وراء كل هذا الصمت المريب حقّاً من جانب كريم خان، المتواري، هو وهيئة مكتبه ومحقّقوه، عن الأنظار على مدى الأشهر الطويلة الماضية، وينام ملء جفنيْه قرير العين عمّا يحدُث من كوارث يومية في قطاع غزّة، وكأنه كائنٌ لا يرى ولا يسمع ما يجري من جرائم مروّعة في القطاع المحاصر المدمّر، ولا تهتز في بدنه شعرة إزاء كل ما تقارفه قوات احتلالٍ مجنونة، ولا سيما جريمة التجويع، التي هزّت الضمائر في مختلف الأوساط العالمية، بما في ذلك ضمير عزيز صهيون، الرئيس جو بايدن، الذي بدأ يعارض، من طرف اللسان، بعض أفعال ربيبة أميركا المفضّلة في الشرق الأوسط.
قد يكون هذا الانتقاد وكلّ هذا الاعتراض السياسي الطفيف على طول سبات كريم خان المديد، مجرّد صوتٍ بلا صدى، لا يقدّم ولا يؤخّر في موقف مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية، المخصّصة في ما يبدو لمحاكمة القادة الأفارقة، وملاحقة فلاديمير بوتين عدو الغرب رقم واحد، إلا أن رفع مزيدٍ من الأصوات القوية، ولا سيما من قادة الرأي العام والمنظمّات الحقوقية، هنا وفي كل مكان، أمرٌ من شأنه أن يشدّد من حدّة الضغط على المدّعي العام، وربما يزيد من حرجه، ويحمله على أقل تقدير إلى فتح فمه ولو مرّة واحدة، حتى لا نقول أن يتحرّك إلى الأمام ولو خطوة صغيرة، لشرح علة صمته الصارخ، وتسويغ أسباب تغاضيه عن الوفاء بواجباته الوظيفية.
لا نبحث عن شخص كريم خان، ولا نتقصّى أثره في لندن حيث مقرّ إقامته الاعتيادية، أو في لاهاي حيث مقرّ محكمة الجنايات الدولية، وإنما نتحرّى في واقع الأمر عن دوافع صمت الرجل وعن قدرة قاضِ دولي على إماتة ضميره.