البحث عن مصر بديلة ... أسهل
أوشكت الدولة المصرية في مطلع تسعينيات القرن الماضي أن تشهر إفلاسها، ولم ينقذها سوى حرب الخليج، واشتراكها في تحرير الكويت، ونالت مكافأتها بإسقاط الديون عنها، واستمرارها، ولو قليلا، على أجهزة تنفّس صناعية. الكلام عن فشل نظام حسني مبارك، امتداد أنور السادات، يحتاج إلى مجلّدات، في شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع والعمران والخدمات كافة. تركة خراب، زادها مبارك خرابا، وانتقل بها من فساد الإدارة إلى إدارة الفساد. من هنا، منهج الحكم واختيار الكوادر وتصعيدها. ومن هنا، صعد عبد الفتاح السيسي، ووصل إلى منصب مدير المخابرات الحربية في عهد مبارك، وهو نموذج واضح لنوعية القيادات والمسؤولين في عهد مبارك، شخوصهم وإمكاناتهم وانحيازاتهم، يختصر ذلك الكثير. ورغم ذلك، تتكرّر الإشارة إلى عهد مبارك، وسنواته الثلاثين، بوصفها أخفّ الضررين، وأهون الخرابيْن، زمن التخريب المنظّم لا العشوائي، السلطوي لا الهمجي، الاستبدادي لا الانتقامي، أيام الفقر لا الجوع، الاغتراب بحثا عن لقمة العيش، لا هربا من التصفيات الجسدية والإخفاءات القسرية والاعتقالات العشوائية، الموت دهسا أو غرقا أو مرضا نتيجة الإهمال والفساد، لا الموت قتلا أو حرقا أو خنقا بوصفه روتيناً أو تطبيقا للقانون، حكم المستبد العاقل لا المهووس، الفاسد لا الفاجر، الواجهة لا الأراجوز.
تحوّلت مأساة مبارك إلى ملهاة، وتفنّن المصريون، وبعضهم ممن شارك في إسقاطه، في إطلاق النكات والإفيهات والميمز والكوميكس على مواقع التواصل الاجتماعي، للمقارنة والتندّر بأسعار السلع وقيمة الجنيه المصري وأحوال البلاد داخليا، ودورها ومكانتها إقليميا ودوليا، أيام مبارك (الأكثر سوءا) والآن (حيث لا وصف يصلح)، وارتفعت أصوات "العاديين"، رغم الحصار المضروب على الكلمة، في فيديوهات "فيسبوك" تصرخ في وجه "الفاشل" الذي خرّب وجوه الحياة المختلفة، البشر وأرزاقهم وبيوتهم وشوارعهم وتاريخهم، حتى هواء البحر، لم يفلت. لم يعد لدى المواطن شيء يخسُره سوى عجزه وقلة حيلته وهوانه على الدولة. تتكرّر الظاهرة بصور مختلفة، صراخ بالصوت وصراخ بالصورة، صفحات، لا حصر لها، تستدعي مصر القديمة، ليس في نسختها الفرعونية أو الإسلامية، وليس في نسختها ما قبل يوليو 1952، كما جرت العادة أيام مبارك، بل في نسختها الأقل تشويها، الأقل زجاجية، الأقل "دُبَيـّوية"، مصر في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، صور القاهرة قبل اقتحام الكباري (الجسور) غرف النوم، ونبشها مقابر الموتى، مصر الجديدة قبل اقتلاع الأشجار، كورنيش الإسكندرية قبل تحوّله إلى طريق صحراوي، رمل الشاطئ قبل السفلتة، موج البحر قبل الردم وحصار كافتريات القوات المسلحة، حدائق المنتزه قبل تبليطها وتحويلها إلى "كومباوند".
يقترب معرض القاهرة الدولي للكتاب، "عيد" القارئ المصري، (بأي حال عدتَ يا عيد؟)، تشير إعلانات الكُتاب والناشرين عن إنتاجاتهم إلى نوع آخر من البحث عن بديل، زمن بديل، بلد بديل، مصر بديلة، أو متخيلة، لو أردنا عنوانا كبيرا (أو تبويبا) لأغلب الإصدارات فهو "الأرشيف هو البطل". يُقلب تجّار المعارف في دفاتر زماناتهم القديمة، بحثا عن رصيد لسداد ديون وضرائب وفواتير واقع مفلس، لا يمنحهم شيئا يستحقّ الكتابة، ولا يسمح لهم بأن يمنحوه شيئا سوى الصمت، يبحثون عن الكتابة بين قوسي العجز والهزيمة (شكرا لهم). يبدو تاريخ الفن المصري في النصف الأول من القرن العشرين الأكثر إضاءة وإلهاما، تتنامى منذ انقلاب 3 يوليو (2013)، ظاهرة التأليف الصحافي والأدبي (إلى جوار كتابات مؤرّخي الفن المتخصصين) عن مطربين وملحنين وشعراء وممثلين ومخرجين، في محاولة تحضير أرواح الغائبين، واستحضار منجزهم وقيمتهم، في سنواتٍ عجاف بلا منجز أو قيمة "حقيقية". يمثل الفنانون وتاريخهم منطقة إبداع "آمن"، حيث لا مقارنة مع حكام آخرين (أقلّ فشلا)، أو عساكر آخرين (أكثر وطنية)، أو منافسين حاليين على السلطة والثروة والميكروفون، كما أنهم أموات، (ألف رحمة ونور عليهم) لن تخصم الإشارة إلى منجزهم من رصيد صندوق الإشادات الدائمة والواجبة بمنجزات "فخامة الفخامة"، ما يمنح الكتاب والناشرين فرصة الذهاب إلى بيوتهم وتربية عيالهم. وربّنا يستر.