البديل عن الديمقراطية
على الرغم من نهاية حقبة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بهزيمته أمام الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدين، إلّا أنّ هنالك هواجس مشروعة وحقيقية بأنّ "الترامبية" لم تنته بعد، وأنّها نجحت بقوة في زلزلة القيم والمثل التي تشكّل البنية التحتية لأي نظام ديمقراطي مستقر.
في أدبيات النظرية الديمقراطية، يجرى الحديث عادةً عن التعدّدية الدينية والسياسية، وتداول السلطة، والفصل بين المؤسسات، والحريات العامة وحقوق الإنسان، بوصفها أسساً صلبة ضرورية للعملية الديمقراطية. لكن مرحلة ترامب، عملياً، وضعت سؤالاً مهماً يهدّد كل ما سبق، يتمثّل بأزمة الهوية، وما تستبطنه من تساؤلاتٍ ثقافيةٍ مجتمعيةٍ عن البنية الداخلية للمجتمع وتماسكه وقدرته على بناء هويةٍ جامعةٍ تعدّديةٍ تتسع للجميع.
لم يكن ترامب طفرةً مفاجئة، ولا يمثل خطابه خروجاً عن النص العام، بل كان متداولاً وحاضراً وله جذور في وسائل إعلامية ومراكز تفكير وقوى سياسية واجتماعية، والجماعات اليمينية والخطابات الإقصائية في أحشاء من المجتمع الأميركي، وفي خطاب قوى سياسيةٍ يمينيةٍ اتكأت عليه في تعزيز هويةٍ معينةٍ في مواجهة شرائح أخرى عريضة في المجتمع.
المفارقة، كما يرصد رئيس معهد السياسة والمجتمع في الأردن، جعفر حسّان، (في مقالة له على موقع المعهد)، أنّ خطر الإرهاب الأكبر لم يعد خارجياً بالنسبة للأميركيين متمثلاً في القاعدة و"داعش" وغيرهما، أو في الصين ودول أخرى، بل في الداخل عبر تلك الجماعات اليمينية التي تهدّد السلم الداخلي والقيم الديمقراطية ذاتها.
أحد أبرز المفكرين والمنظّرين الذين أشاروا إلى قصة الهوية في أميركا هو صموئيل هنتنغتون، في كتابه "من نحن؟"، الذي يكاد يكون تنبأ فيه (في عام 2004) بما حدث في أميركا لاحقاً، خلال فترة ترامب. ثم يأتي المفكر الأميركي البارز الآخر وزميل هنتنغتون، فرانسيس فوكوياما، وهو أيضاً أحد علماء السياسة الكبار في عالم اليوم، ليؤكّد أنّ هنالك أزمة حقيقية في الديمقراطية الأميركية، وخطورة ما حدث في مرحلة ترامب.
في حواره مع مجلة فورين بوليسي، أخيراً، يؤكّد فوكوياما، وهو صاحب مؤلفات مهمة عديدة في النظرية الديمقراطية (منها كتابه الجديد "النظام السياسي والانحطاط السياسي"، 2014)، أهمية الانتباه إلى أنّ الديمقراطية مرتبطة بشروط أخرى، اقتصادية واجتماعية وسياسية، وكان قد ذكر في كتابه السابق ثلاثة شروط رئيسية للدولة القوية: قوة المؤسسات السياسية، حكم القانون، مساءلة الحكومة.
من المهم الإشارة إلى أنّ سؤال الديمقراطية والهوية لا ينفصل عن موضوع العدالة الاجتماعية، ففي أوقاتٍ كثيرة تبرز الهوية بوصفها انعكاساً أو تعبيراً عن مصالح سياسية واقتصادية لفئات تشعر بالضرر من الوضع القائم، وربما تتمثل أحد الأمراض التي أصبحت تعاني منها الديمقراطيات التقليدية بهيمنة طبقة من السياسيين التقليديين ممن يرتبطون بمصالح مع مؤسساتٍ وشركاتٍ اقتصاديةٍ وإعلاميةٍ تعمل لصالح فئة قليلة على حساب الأكثرية، كما ألمح إلى ذلك فوكوياما نفسه، وكتب عنه كثيراً المفكر اليساري، نعوم تشومسكي.
تزداد أهمية مثل هذه النقاشات في النظر ليس فقط إلى ما أحدثته مرحلة ترامب من ضرر كبير في المجتمع الأميركي، بل إلى التحولات الكبيرة التي تحدث في العالم اليوم، بخاصة بعد صعود حركاتٍ اجتماعيةٍ في قلب المجتمعات الأوروبية تطالب بالعدالة الاجتماعية، كحركة "احتلوا وول ستريت"، والحركات الأوروبية الشبيهة، من الشباب الجدد الذين يطالبون بإصلاح الديمقراطية، وهي ظواهر مهمة أشار إليها عالم الاجتماع مانويل كاستلز، في كتابه "شبكات الغضب والأمل".
على الرغم من ذلك كلّه، لا يوجد شك حقيقي في أنّ الديمقراطية بما حققته على الصعيد المؤسساتي والإجرائي والعملي والقيمي تمثّل النظام الأكثر نجاعة في العالم، وأنّ البديل الحقيقي ليس الأنظمة الدكتاتورية أو التسلطية، وأنّ ما يتمتع به الإنسان في نظام ديمقراطي لا يقارن بأي حال بما يجرى في مجتمعاتٍ أخرى، والحوار الحالي هو لتعزيز الديمقراطية وتطويرها والوصول إلى أفضل صيغة لها، بما لا يقارن بالأنظمة الأخرى!