"البُعبُع" وبشّار الأسد المُستبعَد والمُستعبَد
إلى جانب التنظيرات الاجترارية، التي تندرج تحت أدبيات التشفّي والانفعال العبثي الخام، وترى في نظام بشار الأسد شرّاً خالصاً يُنتزَع ببعض التعاويذ الثورية، تُؤكّد قراءاتٌ تحليليةٌ عدّةً أنّ هذا النظام لا يمكن طمس ملامحه بسهولة حتّى بعد سقوطه، لأنّه لم يحمل، في خطاباته وممارساته، وخلال أكثر من نصف قرن، أيّ مشروع وطني أو قومي مُحدَّد المعالِم، مُختزِلاً سورية في طُغمة عائلية أوقفت السوريين جميعهم على قدم واحدة: "والبُعبُع" جيش "جينوسايدي" يقتل بلا هوادة. وليس هناك نقاشٌ ممكنٌ في مسمّى "سورية الأسد". فهذا الشكل العدمي للبلاد، أو لا شكل على الإطلاق. يرصد هذا التقديم مآل الواقع السوري الراهن بحذافيره، بينما يتردّد أنّ بدائل الأسد ستكون على مقاس عصابته. سياسيون فاسدون، ومهرجون "وطنيون" بالجملة، خصوصاَ أنّ ماكينة الرعب بعد عام 2011، استجلبت صوراً هزليةً مهينةً لبشّار الأسد. فهو "البطّة" و"الزرافة"، وهو "ذيل الكلب" الروسي، و"السفّاح" الذي كلّما زاد استعماله للعنف لاستعادة مكانته سقطت هيبته أكثر. ألقاب بدت فعلَ خروجٍ عن كلّ ما هو مُقدَّس، وتحدٍّ سافرٍ لوحشية النظام نفسه. من هنا كانت بداية تداعي هيبة الأسد في مملكة الصمت البائدة، عندما بانت شخصيته الكاريكاتيرية المنهزمة، التي جهِدَ في إبراز عكسها كي لا يرجع بشراً بعدما أصبح "إلهاً" أو كاد (!)
انفرط "حكم الأبد" مع انطلاق الثورة السورية، التي صدمت قناعات بشّار الأسد بنظرته المتضخّمة نحو نفسه، والمتدنّية نحو شعبه
وفي إحاطة موضوعية لهذا السقوط، تلوح مفارقةٌ غير مُتوقَّعةٍ ستجرّ بشّار الأسد، إلى هلاكه المحتّم، وهي حقيقة "البُعبُع نفسه"، الجيش العقائدي المُشبَع بالأيديولوجيات الانتهازية وبواقع التسييس المذهبي والعصبوي، والذي تمخّض عنفُه حالةً من الهيولى وانعدام الشكل الوطني، فكان "الدعسة الناقصة" للأسد، من شأنها أن أحدثت اختلالاً هيكلياً وعضوياً في بنية النظام المصمتة. إذ ثمّة أمر لا يمكن تجاوزه، وهي واقع انفراط سُبْحَة "الأبدية والقدسية"، في ظلّ بلد باتت تحكمه سلطات الأمر الواقع، وعشرات المليشيات العابرة للحدود.
تبدو رؤيةً واقعيةً بقدرٍ كافٍ، وليست متنطّعة، فبداية التجسيد الواقعي لانفراط "حكم الأبد" تمثّلَ بالهزّات السياسية والبشرية الأقسى والأعمق مع انطلاقة الثورة السورية، والتي صدمت كلّ قناعات بشّار الأسد عن نظرته المتضخّمة نحو نفسه، والمتدنّية جدّاً نحو شعبه، واستلزمت تلك الهزّات استجلاب عناصرَ غير سورية داعمةٍ، رفدت جيش الأسد في مهمّة الدفاع عن رأس النظام الحاكم، لتسقط عنه الأقنعة، ويغدو إحدى الفواعل الضعيفة في المشهد السوري العام، أسيراً للحلفاء، وأيضاً للشبكات الدولية والإقليمية الفاعلة في الجغرافيات الخارجة عن السيطرة. فبعد دخول القوّات الروسيّة سورية، عزلت الجيش، جزئياً، عن قياداته الأمنيّة، وأصبحت له اتصالاته الخاصّة مع الروس. من ثم، تجاوزت تلك القوات كلّ الهرم الأمني السابق، وسط سعيها الخبيث لتجريد بشّار الأسد من بروتوكولات الرئاسة المَهيبة كلّها، وتقديمه للعالم بصيغة جديدة، جندياً من الدرجة الثالثة بين الجنود الروس، وهذا ما تُرجِم حرفياً في اللقطة الشهيرة داخل مطار حميميم، عندما منع ضابطٌ روسي الأسدَ من اللحاق بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أيضاً عمدوا إلى تقزيم قادته مثيرين غِلّاً سياسياً مريراً لا يرتوي، بعدما أُجلس وزير الدفاع السوري علي عبد الله أيوب على كرسي منخفضٍ، ممّا أظهره أقصر من بقية الحضور بكثير في مقرّ تجمّع القوات الروسية في دمشق، حيث لا صور للأسد، بل للرئيس بوتين ووزير دفاعه، فحسب.
وتوازياً مع مرارة المشهدين وحساسيتهما السياسية، يُثار سؤالٌ ملحّ عن المضمون القيمي للإهانة المتعمّدة، ليتضح أنّ حجم الأسد ووزيره يتناسب و"السيادة" التي ابتلعها الحضور الروسي في مقابل حماية عرش الأسد. ويستدعي هذا الإذلال المنسجم عضوياً مع عوائد الأسدية نقاشاً ضرورياً بين السوريين عن كيان البلد ومعناه، ما يتجاوز الكلام الكسول عن الديكتاتورية والاستبداد، ووفق حتمية طبيعية تجعل من تداعي نظام الأسد مسرحَ الاستعراض السوري القادم.
وفي جذر ما تقدّم ذكره، علينا الجزم بأنّ نظام الأسد سقط فعلياً عندما تحوّل جيشه من حالة احتلال قسري لسورية إلى مُجرَّد قوىً متشرذمةٍ هي الأضعف بين المليشيات الطائفية التي استُقدِمت بإشراف وتمويل إيراني. وبغضّ النظر عن صحّة أو مغالطة ما نشر عن رئيس أركان النظام السوري، العماد عبد الكريم إبراهيم، من أنّه "أجرى تحرّكات من دون علم بشّار الأسد"، من بينها زيارة طهران سرّاً لتوطيد العلاقة مع إيران، فثمّة مؤشّرات كثيرة تُؤكّد استبعاد بشار الأسد، الذي ما زال يلعب على حبلٍ مشدود بين المحور الإيراني والعودة العربية، لعلّ أهمّها أنّه كان آخر من التحق بركب المُعزّين بمقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، فيما وصل اللواء علي مملوك مستشار شؤون الأمن الوطني في الرئاسة، ورئيس الوزراء حسين عرنوس، إلى طهران للمشاركة في المراسم. وهو غياب يسهل التوقّع الدقيق لمسالكه، خاصّة أنّه لا يتناسب أبداً مع مستوى وطبيعة علاقات التحالف الاستراتيجي بين الأسد وإيران، في وقت يبدو فيه تصريح المُرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي بأنّ "المقاومة هي هُويَّة سورية ويجب الحفاظ عليها"، أشبه بـ"قرصة أذن" لتذكير الأسد المتمرّد بسبب بقائه بعد سنوات ملتهبة من الصراع المسلّح.
سقط نظام الأسد سقط فعلياً عندما تحوّل جيشه مُجرَّد قوىً متشرذمةٍ هي الأضعف بين مليشيات طائفية استُقدِمت بإشراف وتمويل إيراني
بالتوازي، أصبح بشّار الأسد، المُستبعد إيرانياً، مُستعبَداً روسيّاً بعدما أُجبر على تحييد نفسه عن أيّ فعالية من فعّاليات محور "المقاومة" الاستعراضية، الذي تجتمع تحت سقفه قوىً عدّة، برعاية إيرانية، وليس هذا الالتباس والغموض إلّا المساحة المضبّبة لتخبّط الأسد بين مصالح الحليفَين المتنافرة. بدءاً من عدم مشاركته في اليوم العالمي للقدس، مروراً بعدم حضوره تشييع فؤاد شُكر، وصولاً إلى تجاهل نعي إسماعيل هنيّة، وليس آخرها امتناعه عن التعليق على حادثة مجدل شمس، التي أودت بحياة أطفال سوريين في الجولان المحتل... إلخ. أمّا زمن السؤال الأخلاقي الأكثر أهمّية الآن: فهو سبب اكتفاء الأسد، ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة، باختيار لغة التنديد بعيداً عن خطابات التهديد والوعيد التي تشدّق بها عقوداً؟... أمّا الجواب الأكثر وضوحاً في السياق، فهو أنه من الجليّ أنّ بشّار الأسد استوعب الدرس الأليم أخيراً، كما فعل أبوه قبله، وأدرك تماماً أنّ أيَّ "بَعبَعة" تُصدّع رأس إسرائيل سيكون ثمنها رأس النظام نفسه.
فعلياً لا شيء يوحي أنّ البركان السوري الملتهب منذ ستينيّات القرن الماضي يتّجه نحو الخمود، خاصّة بعد نزع السياسة من المجتمع بواسطة العسكر، في معادلةٍ صفريةٍ عجيبةٍ ارتبطت فيها قوّة النظام وجيشه طردياً بإضعاف المجتمع وبناه الأهلية، وهذا ما جعله نموذجاً استثنائياً بين ثورات الربيع العربي. وفي أساس نسيج المفارقات، فجيش نظام الأسد، الذي كان ينادي بتحرير الجولان لأجل عيون "أبو سليمان"، بات اليوم متأرجحاً بين الذميّة واستعدادات التبعية والطأطأة، لذا لم يعد في مقدوره إحداث أيّ فارقٍ يُذكَر، باستثناء جرّ الأسد إلى حافَة الجحيم. وهو مصير مرتبط مع مخرجات النظام نفسه، وليس عارضاً أصابه، ولا هو في قطيعة معه.
وبين الخفّة المريبة لدفن الثورة السورية والثقل الفرجوي المهين لمشهديات سقوط الأسد، يبدو أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي اهتمت بمستقبل سورية في وقت مُبكّر من حكم حافظ الأسد، صدقت في نبوءتها عندما توقعت انفراط الاستقرار القسري للبلاد بعد رحيله، إن لم يكن الرئيس الذي سيخلفه يوازي مستواه في الدهاء والخبرة، وهو ما حدث بالفعل.