التاريخ العاطفي لأناسٍ لم تبُح به
ليس كل ما قيل أو ذُكر أو حُكي أو تم تدوينه للقلب والعين، كتباً ونقلاً ورواية، كان هو الجميل وحدَه، بل هناك أشياء جميلة لم يستطع أصحابها أن يُفلتوا منها، وذلك من شدّة قسوتهم على قلوبهم، حتى وإن ضاقت قلوبهم بالسر، فكيف استطاع هؤلاء الإفلات من الألم والإفلات من البوح معاً، وظلت محبّاتهم بيضاء بلا حروفٍ في دفتر القلب واستحت العين من الدمع، حتى جاءت رحمة النسيان، فكأن ما كان لم يكن، وكأن هذا الحقل ما جاد بورد أبداً، ولا هذه العين رأت الدمع حتى في حلم.
هؤلاء ليسوا قساة ولا حتى صابرين، ولكن فقط تكفّلوا وغسلوا أيامهم من أي ندم، ومشوا وراء غنمهم وتجاراتهم، ونسوا حتى أن هناك كانت فوق أسطحهم تلك النجوم القديمة، فهل ارتاحوا، أم أن النسيان مجرّد دواء بسيط لا يقضى تماماً على العلل التي سكنت بخفّة وراء أبواب القلب؟
البنت التي ركبت ليلاً أرجوحة أول مرّة، من وراء أمها، في مولد الشيخ أبو صفّارة، وكان طرف فستانها يعلو ويهبط مع قلبها بجوار شعر الولد الخجول، حتى رآها بعدما كبُر وتعدّى الأربعين في السوق بجوار أقفاص الفراخ البيضاء كثيرة العدد وهي تقشر في عود القصب وترمي الكلام على صاحب فرن بطاطا يغنّي أمامه أغاني أم كلثوم، فبانت أسنانها من الضحك على الغناء، وقالت له: "ما لكش دعوة يا جربان بأم كلثوم"، وهو عبر إلى هناك من دون أن تعرفه، وكأن 40 سنة مضت مجرّد قفزة في أرجوحة حينما كان الشيخ أبو صفارة يميل راقصاً، ويقول: "لأجل النبي"، وهما في صندوق الأرجوحة في هبوط وعلوّ، والقلب خجلان، وأمه تعطي لصاحب المراجيح القرش، هل كانت فوق حاجبها حسنة؟ هذا الكتمان، في أي بحر يذوب؟
ونس العين البعيدة تحت شجرة الكافور، حينما تطلّ من بعيد، ونحن نأكل بعد نصف يوم من التعب، ويمامتان تتقاربان فوق فرعٍ محنيٍّ من شجرة الكافور، والعين المصوّبة من هناك مع رائحة الكافور تأتي رغم التعب، تلك الوثائق المنسيّة التي لم تحوها الأفلام ولا الصور ولا عذابات العمر وأيامه وسنواته، وضعف القلب، حتى عن تذكّر صداها، ومشى أصحابها هناك، بعدما هدّهم التعب أمام مكاتب البريد أو لاستخراج الشهادات المختومة أو لبيع كيلة قمح أو برسيم، والدنيا ما عادت أبداً مائدةً للفرح الجميل، الذي كانت تهبه للقلب بغير بخلٍ ولا حساب، ولا حتى عصفور تجرّأ وتدلع فوق عناقيد العنب ونحن ننادي ونخبط على الصفيح بالعصي، ونقول: "يابو قطاطي أوعه تطاطي على عنباتي، ده أنا صغيّر وأعرف أطيّر، ذر هواااا ا"، فتطير العصافير خائفةً من فوق عناقيد العنب، بعدما تحسّ بخشخشة العصي في الأوراق، وهي هناك تحش القسباء بعيون سارحة من بين "غرزان العنب"، وشاب قد زهّر شاله يلعب العصا بجوار قضبان السكة الحديد، ما زلت أراه في عيونها وهي تجلس كعجوز أمام ركية النار.
تلك الحظوظ المنسيّة التي دفنّاها فينا حياءً، أو قلة حيلة، لماذا كلما كبرنا يأتى عصفور من بعيد فيمسح عنها التراب قليلاً، فتكون في كامل الخضرة والبهاء بعد ما ظننا أننا نسيناها وماتت؟ القلب ذلك العارف بالفرح والبلاد، حين أصبحت بلاداً أخرى غير الأولى تماماً، بعدما جرف السيل كلّ الذكريات واستبدلها بالعمارات والطوب والرمل والحديد، حتى بيوت الأولياء قد صارت نحيلةً تحت أشجار النبق، حتى شجر النبق نفسه تدارى، إلا في موسم جمعه في المقاطف.
هذا القلب الذي نطّ فوق أسوار الحدائق بحثاً عن الجوافة، ورأى بنات القاضي وهنّ جالسات في الشمس وواحدة تلعب مع الخادمة "السيجة"، بجوار شجيرات البامية، وخور ماء صغير يدخل لحديقة بيت القاضي بالماء من خلال قواديس فخّار، وعين البنت وقد تعلقت بالسور، وجرت الخادمة ناحية الباب، فنبح كلب وهي ابتسمت، فرقصت شجيرات البامية، وأطاحت حبّتي جوافة ناحية السور، فذاب القلب خجلاً، وبعدها بستة أشهر نُقل القاضي إلى محكمة أخرى بدمنهور، وكلما مرّ القلب بدمنهور كأنه يرى سور الحديقة فوق ماء الخور في القواديس.
يجود القلب على المساكين بمصادفة، وتطوى الهدية في شيءٍ غامض في القلب، كسر ما، من دون أن يكون سرّاً، كهدية جاءته وهو نعسان في حلم من دون أن يتوقّعها ومن دون حتى أن يقدّم الشكر المطلوب. السماء يحلو لها أن تطبطب على قلوب المساكين، في الغيطان، أو في الأعياد، أو في مواسم القطن، أو السماء تمطر صهداً في الغيطان ونحن نبحث عن اللطعة التي تأتي أو لا تأتي وتعاند العين، ولكن نظرةً من هناك، من وراء ظهور العيال المائلة، تأتي له بالوعد، فيجري القلب كالعفريت في الدروب، من دون أن يعرف السبب، ومن دون حتى أن يسأل صاحبة الهدية التي ساقت السعد.