التبلّد بمواجهة المقتلة
اقترب شهر رمضان من الانتصاف، ولم يتحقق أي من السيناريوهات التي كانت تقلق الغرب، لجهة انفجار العالم العربي والإسلامي غضباً من العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، وما يحمله من قتل وتجويع وتهجير وتعذيب. كثيرة هي السيناريوهات والتحذيرات التي صدرت عن دوائر غربية، وتحديداً أميركية، من أن شهر الصيام سيشهد تظاهرات عارمة في العالم الإسلامي، ومواجهات واسعة في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل، إلا أن أياً من هذا لم يحدث، بل على العكس تماماً، إذ لم نشهد أي تظاهرة ذات وزن فعلي عربياً أو إسلامياً، فقط في الدول الغربية، استمر الرافضون للعدوان في حراكهم الأسبوعي، وأحياناً اليومي في دول غربية متفرقة.
هناك حالة من التبلّد في مواجهة المشاهد اليومية التي تأتينا منذ أكثر من خمسة أشهر من قطاع غزة. يبدو أن مشاهد القتل والتدمير والتهجير والتجويع لم تعد تحرك شيئاً في ثنايا الشارع العربي والإسلامي، الذي انكفأ إلى الدعاء على "الظالمين"، ومتابعة الحياة اليومية كأن شيئاً لم يكن. لا شك أن هناك دوراً للأنظمة العربية في قمع التحرّكات الشعبية. هذا الأمر كان منذ اليوم الأول. عشرات المعتقلين أودعوا السجون لمجرد خروجهم هاتفين ضد العدوان الإسرائيلي على القطاع. وقد حدث هذا الأمر في أكثر من دولة عربية، وحتى حينما كانت التظاهرات تحدُث بدعوات من الأنظمة نفسها، إذ حولتها إلى مكان لرصد المعارضين والخارجين عن "الصفّ الوطني".
رغم ذلك، استمرّت هذه التظاهرات في الخروج، وإن خفت كثافة المشاركين فيها. لكن أسبوعاً بعد أسبوع اختفت "الجماهير" من الشوارع، وتسمرت أمام الشاشات تتابع "مسلسل العدوان"، ومع الوقت أيضاً، ملّت هذه المتابعة، وباتت تمرّ عابرة أمام القنوات الإخبارية التي تعرض الانتهاكات اليومية ضد الفلسطينيين، باعتبارها لم تعُد جديدة، ورأيناها قبل ذلك. لم يعد هناك مكان للدهشة في مشاهد المجازر والاعتداءات والمآسي اليومية التي يعيشها الفلسطينيون، كلها أصبحت معادة ومكرّرة. لا شيء جديداً لنراه أو يثير فينا غضباً إضافياً قابلاً للانفجار.
حتى الأحاديث عن العدوان وإمكان توقفه باتت مملّة في الجلسات العامة. تم التطرق إليه من الجوانب كلها، لم يعد هناك زاوية لبحثها. "وقف العدوان" أو "الهدن" أو "اليوم التالي" أو "من المسؤول"، كل هذه العناوين كانت مجالاً لنقاشات، وربما خلافات في كل التجمّعات العربية المعنية بالمتابعة السياسية، لكنها اليوم لم تعُد موضوعاً للنقاش، أو باتت تمرّ مروراً عابراً في سلسلة الأحاديث، ليس وفق العناوين السالفة، لكن ضمن سؤال واحد أو اثنين: متى تتوقف الحرب أو هل ستكون هناك هدنة؟ الإجابات عن السؤالين أيضاً لا تخرج عن دائرة كلمات غير جازمة، وبعدها تنطلق الأحاديث إلى مناطق أخرى.
يمكن القول إن رهان نتنياهو نجح. كان متيقّناً من أن أحداً لن يتحرك، وأن الجبهات لن تفتح، وواجه الضغط الأميركي المطالب بهدنة طويلة قبل شهر رمضان، خشية "الغضب العربي والإسلامي"، وها هو اليوم لا يزال يماطل ويسوّف في مفاوضات التهدئة الجديدة والتبادل، ويعرض الخطط الخاصة بمرحلة ما بعد الحرب، والأنكى من ذلك أن هناك من العرب والفلسطينيين الذين يتماهون مع نتنياهو في مخطّطاته، من هو مستعدٌّ للعمل وفق الآلية التي يضعها لحكم القطاع مستقبلاً، وتحت الإشراف الإسرائيلي.
غزّة اليوم متروكة وحدها لتواجه كل ما يمكن أن يخطر في البال من كوارث إنسانية، فيما العالم العربي والإسلامي يراقب يومياً من بعيد المشاهد الآتية من القطاع وكأنها لم تعد حقيقية أو جزء من مسلسل طويل، لكنها بالتأكيد واقعٌ ستحمل الأمة العربية والإسلامية وزره سنوات طويلة.