التصعيد الصربي ضد كوسوفو يجدّد ذكرى حروب البلقان
شهد شمال جمهورية كوسوفو في البلقان منذ الأيام الأولى من ديسمبر/ كانون الأول الجاري اضطرابات تمثلت بنصب حواجز على الطرق وإطلاق قنبلة صوتية على دورية استطلاع تابعة لبعثة الاتحاد الأوروبي المعنية بسيادة القانون، والمعروفة باسم أيوليكس، كما جرى إطلاق أعيرة نارية من مواقع مختلفة على وحدات الشرطة الكوسوفية. ومنذ الخميس (8 ديسمبر) بدأت سلطات كوسوفو نشر مزيد من وحدات الشرطة في هذه المنطقة التي تضم أغلبية صربية. وبينما أعلن مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن "الاتحاد الأوروبي لن يتسامح مع الهجمات على أيوليكس، أو استخدام أعمال عنيفة وإجرامية في الشمال". وأردف ذلك بدعوة "مجموعات صرب كوسوفو إلى إزالة المتاريس على الفور". مع تشديده على ضرورة "استعادة الهدوء، وعلى مواصلة بعثة الاتحاد الأوروبي التنسيق مع سلطات كوسوفو، وعلى أن على جميع الجهات الفاعلة تجنب التصعيد". في هذا الوقت، اعتبرت سلطات الدولة المجاورة، صربيا، خطوات حكومة كوسوفو لبسط الأمن في تلك المناطق أنها "محاولة لغزو مناطق شمالي البلاد"، علما أن شمال كوسوفو جزء من أراضي جمهورية كوسوفو.
وخلال الأسبوع الماضي، اتهم السفير الروسي لدى صربيا، ألكسندر بوتسان خارتشينكو، بريشتينا، بزيادة وجودها الشرطي في شمال كوسوفو بشكل منهجي، ما أحدث وضعًا "خطيرًا يتم فيه ترهيب السكان الصرب المحليين وإخراجهم من المنطقة". وهي تصريحاتٌ تعكس نظرة صربية وروسية، تهدف إلى فصل شمال كوسوفو عن بقية البلاد.
وواقع الحال أن نذر هذه التطورات المقلقة قد انطلقت منذ يوليو/ تموز الماضي، إذ إن قاطني مناطق الشمال، وهم في غالبيتهم من الصرب الذين يشكلون نحو 6% من مجموع عدد سكان كوسوفو البالغ 1,900,000، يتحدّون سلطات العاصمة باتريشا، باحتفاظهم بلوحات سياراتهم القديمة الصادرة قبل استقلال البلاد في العام 2008. كما يرفضون حمل بطاقات الهوية المحلية، والتي يمتلكها 94% من السكان، ويعيق هذا التحدّي للسلطات تنقلات سكان مناطق الشمال، كما يعيق إجراءهم المعاملات الحكومية. وقد سعت السلطات في باتريشا منذ صيف هذا العام (2022) إلى تحديد موعد لاجراء انتخابات بلدية في أربع من مدن مناطق الشمال، وحددت 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري موعدا لإجرائها، إلا أن وتيرة الاضطرابات الأهلية حملت السلطات على تأجيل هذا الموعد إلى إبريل/ نيسان المقبل.
تتجمّع نذر تدخل صربي في كوسوفو بداعي حماية المواطنين الصرب في شمال البلاد، وهو ما يعيد إلى الأذهان ذكريات الحرب الصربية على هذا البلد
صربيا تطلب نشر قواتها
مع ذلك، لم تهدأ التوترات. وقد لوحظ في هذه الأثناء أن سلطات صربيا (لا تعترف بجمهورية كوسوفو)، لم تجد ما تقترحه لتهدئة الوضع في الدولة الجارة سوى المطالبة بنشر قوات شرطة صربية في مناطق شمال كوسوفو، إذ أعلن الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، أن بلغراد ستطلب رسميا من بعثة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لحفظ السلام في كوسوفو (تعمل إلى جانب البعثة الأوروبية في البلاد وبعثة الأمم المتحدة) نشر عناصر من الشرطة والجيش الصربي في كوسوفو وفقا لقرار الأمم المتحدة 1244. وقد لفت فوتشيتش إلى أنه يدرك أن طلبه هذا سوف يقابل بالرفض. وردّاً عليه، صرّح رئيس وزراء كوسوفو، ألبين كورتي، إن بلاده ستردّ على أي عدوان عليها، مؤكّدا "أننا لا نريد الصراع بل السلام والتقدّم، لكننا سنرد على أي عدوان بكل ما أوتينا من قوة".
على هذا النحو، تتجمع نذر تدخل صربي في كوسوفو بداعي حماية المواطنين الصرب في شمال البلاد، وهو ما يعيد إلى الأذهان ذكريات الحرب الصربية على هذا البلد وشعبه في تسعينيات القرن الماضي، وذلك مع نشوء نزعات استقلالية لدى دول جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية، والتي كانت تضم: صربيا، الجبل الأسود، البوسنة والهرسك، كرواتيا، مقدونيا الشمالية، كوسوفو، سلوفينيا. وقد حظيت البوسنة والهرسك، ثم كوسوفو، بنصيب كبير من حملة إبادة جماعية قادتها صربيا التي تعتبر نفسها وريثة للاتحاد اليوغوسلافي السابق، والتي سعت إلى الحد من انفراط عقد المكونات السابقة. وبينما أبدت بلغراد عاصمة صربيا تسامحا تجاه الدعوات الاستقلالية لكل من سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود، فإنها أبدت سخطا شديدا تجاه هذه النزعات لدى كل من البوسنة والهرسك وكوسوفو. وبالنسبة للأولى، حفزت بلغراد صرب البوسنة وأمدتهم بالسلاح وأمكنهم فرض حصار على العاصمة سراييفو، وذلك مباشرة بعد إعلان استقلال البوسنة والهرسك في مطلع مارس/ آذار 1992، وذلك بعد استفتاء شارك فيه كروات البوسنة، أقرّ الاستقلال، وقد تواصلت الحرب ثلاث سنوات، سقط فيها مائة ألف ضحية، إلى أن اعترفت بلغراد بالأمر الواقع الناشئ.
أثر وفاة تيتو
أما في كوسوفو، وأمام المخاطر التي كانت تلوح في البوسنة والهرسك، فقد نشأ جيش تحرير كوسوفو في العام 1991، لكنه لم يقم بأي عملياتٍ ضد الجيش اليوغوسلافي الذي تحوّل عمليا إلى جيش صربي، يسعى إلى الحفاظ على سيطرته على البلاد وعلى الشعب الذي عبّر عن نزعاته الاستقلالية منذ عقود، وحتى مع شيوع نظرة إيجابية لأبناء كوسوفو تجاه الرئيس اليوغوسلافي، جوزيف تيتو، الذي منحهم مزيدا من الصلاحيات الذاتية، إلا أن وفاة تيتو، في 4 مايو/ أيار 1980، أدخلت البلاد في اضطرابات سياسية، حيث اندلعت مظاهرات في جامعة باتريشا، لسبب عرضي، يتعلق بالطوابير الطويلة للطلبة في مقاصف الجامعة، غير أن المظاهرات سرعان ما امتدّت إلى جميع أنحاء كوسوفو التي شهدت حضورا مكثفا للشرطة السرّية، مع قمع مفرط للسكان واعتقال عشرات الآلاف على امتداد عقد الثمانينيات، وفقد آلاف وظائفهم أو طردوا من المؤسسات الحكومية. وعلى الرغم من أن الغضب الشعبي قد شمل من هم من أصول ألبانية ومن هم من أصول صربية، إلا أن التوترات بين المكونين أخذت تطفو على السطح، ولعبت الكنيسة الصربية دورا في تأجيج التوتر وترويج أن الأضرحة المقدّسة يتم حرقها وتدنيسها، إلى جانب انتهاكاتٍ اقترفها الطرفان، وهو ما أسهم في تمزيق النسيج الاجتماعي بين المكونات، وقد فاقم من ذلك الوضع الاقتصادي التعس للسكان جميعا، حيث كانت كوسوفو تعتبر الكيان الأفقر بين المكونات اليوغوسلافية، إذ كان متوسّط دخل الفرد السنوي في كوسوفو يبلغ 795 دولارًا مقارنة مع المتوسط الوطني الذي كان يبلغ 2,635 دولارا.
تلعب جمهورية صربيا دورا في إذكاء التوتر داخل كوسوفو وتأجيجه، إذ تتصرّف على أنها وريثة للاتحاد اليوغوسلافي
وفي هذه الأجواء، ومع تولّي سلوبودان ميلوسيفيتش رئاسة يوغوسلافيا في عام 1988، عمد عام 1990 إلى نزع صلاحيات كوسوفو للحكم الذاتي التي أصبحت تُدار مباشرة من بلغراد. بينما حظيت كل من سلوفينيا وكرواتيا بالاستقلال في العام 1991، فإن الفترة ذاتها شهدت العنف الدموي ضد البوسنة والهرسك، ما أدّى إلى نقمة شعبية واسعة في كوسوفو التي تجمعها بالبوسنة والهرسك روابط عرقية (الجذورالألبانية) ودينية (الإسلام). ومع العام 1995 ومع إغلاق فرص التمتع بالاستقلال، خلافا لحال المكوّنات الأخرى، بدأ جيش تحرير كوسوفو عمليات متدرّجة ضد الوجود العسكري الصربي (اليوغوسلافي السابق)، وأمكنه تدريجياً السيطرة على أراض بلغت نسبتها 40% عام 1997، ما أثار حملة عسكرية مضادّة قادتها بلغراد. ومع استعادة الجيش الصربي مناطق عديدة، فقد بدأت الحرب تتخذ منحى النزاع العرقي مع استهداف متزايد ومنهجي للمدنيين. وقد دانت الأمم المتحدة ما تعرّض له قرويون ألبان، حيث سقط 50 منهم في ديسمبر/ كانون الأول 1998، ثم اتسع نطاق الحملات العسكرية، وبدا أن الجيش الصربي عازم على قمع أية مقاومة وأي اعتراض، وعلى وأد النزعة الاستقلالية. ولم تنجح مفاوضات جرت في فرنسا بوقف حملة الجيش الصربي، وأخذت تتالى أخبار المذابح التي يتعرّض لها المدنيون، مع رفض أية جهود دولية لوقف النزاع.
تدخل "الناتو"
في هذه الظروف، بدأ حلف الناتو في 24 مارس/ آذار 1999 بهجمات جوية على بلغراد لحملها على وقف الحرب، وتواصلت الهجمات 78 يوما، ما حمل القوات الصربية على الانسحاب من كوسوفو في 9 يونيو/ حزيران من ذلك العام الذي طوى صفحة تلك الحرب التي أودت بـ 13 ألف شخص، وجرى الاتفاق على نشر قوات دولية لحفظ السلام، حيث ما زالت هناك قوة دولية تتبع الأمم المتحدة وقوامها 351 فردا، إلى جانب بعثة أوروبية وأخرى من "الناتو". وقد استغرق سعي كوسوفو إلى الاستقلال تسعة أعوام أخرى، حيث أعلنت استقلالها في العام 2008. وقد حظيت باعتراف مائة دولة، إلا أن روسيا والصين قد اعترضتا على قبول عضويتها في الأمم المتحدة، علما أن تمتع كيان مستقل باعتراف 97 دولة يكفل لهذا الكيان الانضمام إلى المنظمة الدولية. وقد جاء اعتراف تايوان بين الدول الأخرى بجمهورية كوسوفو معيقا لاعتراف الصين بها، وهي دولةٌ تتحسّس من النزعات الانفصالية.
وحاليا، تلعب جمهورية صربيا دورا في إذكاء التوتر داخل كوسوفو وتأجيجه، إذ تتصرّف على أنها وريثة للاتحاد اليوغوسلافي، وتناصب كوسوفو العداء من دون الكيانات الأخرى التي استقلت عن الاتحاد. وتتذرّع بلغراد بأنه سبق أن كانت كوسوفو جزءا من صربيا حتى قبل نشوء الاتحاد اليوغوسلافي، علما أن تاريخ كوسوفو قد عرف خضوع هذا البلد لسيطرة قوى أجنبية عديدة، في مراحل مختلفة، منها السيطرة العثمانية خمسة قرون، والالتحاق بألبانيا خلال الحرب العالمية الثانية. أما وجود أقلية صربية في البلاد، فإنه لا يبرّر التهديد بالتدخل العسكري، إذ تضم جمهورية الجبل الأسود، على سبيل المثال، من الصرب ما نسبته 30% من مجموع سكانها، إلا أن بلغراد لم تقمع استقلال هذا البلد الذي تحقق في العام 2002، ولم تتذرّع بوجود هؤلاء من أجل السيطرة على مقدّرات الجبل الأسود، ولم تحرّضهم على السلطات المركزية، كما تفعل إزاء جمهورية كوسوفو. علما أن وجود الصرب في كوسوفو كان من جهة نتيجة سيولة التنقل والإقامة بين كيانات يوغوسلافيا السابقة، وكان، من جهة أخرى، ثمرة نعرة عرقية، إذ تم إحلال سكان صرب محل سكان من أصل ألباني، جرى طردهم ودفعهم نحو ألبانيا في العهد اليوغوسلافي.
جرت آخر اتصالات بين صربيا وكوسوفو يوم 19 أغسطس الماضي في بروكسل، برعاية الاتحاد الأوروبي
قرار مجلس الأمن 1244
أما ما يسوقه في هذه الآونة الرئيس الصربي أن ثمّة قرارا لمجلس الأمن يحمل الرقم 1244 وصدر في العاشر من يونيو/ حزيران 1999، ويتيح، في الملحق رقم 2، لقوات صربية الدخول إلى أراضي كوسوفو، فقد ورد في البند السادس من ذلك المرفق: "بعد انسحاب (القوات اليوغوسلافية / الصربية) سيُسمح لعدد متفق عليه من الأفراد اليوغوسلافيين والصرب بالعودة للقيام بالوظائف التالية: الاتصال بالبعثة المدنية الدولية والوجود الأمني الدولي، وضع علامات على حقول الألغام وتطهيرها، الاحتفاظ بوجودٍ في مواقع مثوى الأجداد الصرب، الاحتفاظ بوجودٍ عند المعابر الرئيسية على الحدود". وبالتدقيق في هذه المهام الأربع، هناك مهمتان، تتعلق الأولى بإزالة الألغام التي سبق أن وضعتها تلك القوات، وتقضي الثانية بالتواصل مع البعثة الدولية. أما المهمتان الأخريان، فتتعلق الأولى بالاحتفاظ بوجود في موقع "مثوى وجود الأجداد الصرب"، والثانية بوجود عند المعابر على الحدود، وكلتا المهمتين تتطلبان التفاهم والاتفاق حولهما مع السلطات المركزية في باتريشا، فالقرار الدولي صدر قبل إعلان استقلال جمهورية كوسوفا بتسعة أعوام، وقد مضى حاليا 14 عاما على استقلال هذا البلد. علما أن عودة قوات صربية حسب القرار سيكون "تحت إشراف الوجود الأمني الدولي، وبعدد صغير متفق عليه (بالمئات وليس بالآلاف)"، غير أن استقلال هذا البلد يضع ذلك القرار في ضوء مختلف، وذلك بعد مضي 23 عاما على صدوره وفي ظروف مختلفة كانت الأنظار فيها آنذاك تتجه إلى تهدئة النزاع.
وجرت آخر اتصالات بين صربيا وكوسوفو يوم 19 أغسطس/ آب الماضي في بروكسل، برعاية الاتحاد الأوروبي، حيث التقى الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، ورئيس وزراء كوسوفو، ألبين كورتي، وكان مدار البحث لوحات السيارات. وقد أخفق الاجتماع، ولم تعقبه لقاءات أخرى كما توقع وأمِلَ منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إذ أعقبته توترات متزايدة في شمال كوسوفو، وتصعيد سياسي من صربيا تجاه كوسوفو يرمي لنزع ولاية هذا البلد على جزء من مواطنيه هم سكان مناطق الشمال.
ومع الخشية من اتساع نطاق التوترات واشتداد نزعة صربيا للتدخل، فإن الطرف الأوروبي لا يسمح، مع استمرار الحرب على أوكرانيا، بحدوث تصدّعات خطيرة جديدة في جنوب شرقي القارّة بين بلدين مرشّحين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما أن للبلدين صلات مع حلف الناتو، إذ تشارك صربيا مع "الناتو" في "برنامج الشراكة من أجل السلام"، فيما توجد بعثة للحلف على أراضي كوسوفو.