التطبيع العربي مع دمشق وخطوة نحو الخلف
عندما يقول رئيس البرلمان الأردني، أحمد الصفدي، في مباحثات عقدها مع رئيس مجلس الشورى السعودي، عبد الله آل الشيخ، في عمّان، "ما زالت تصل إلينا رسائل سلبية من حدودنا الشمالية"، فتلك رسالة مزدوجة موجّهة إلى دمشق من عمّان والرياض التي باتت تشارك عمّان النظرة نفسها اتجاه السلبية الواضحة بتعاطي نظام بشّار الأسد مع المبادرة العربية وسياسة خطوة مقابل خطوة. الرياض التي اضطرّت أخيرا لرفع سقف شروطها، وطالبت نظام الأسد ليس بتخفيف الوجود الأجنبي على أراضيه كما قيل سابقاً، بل بخروج كل القوات الأجنبية من سورية، لأنها كانت وما زالت تشكّل تهديداً لأمن الدول المجاورة واستقرارها.
التطبيع العربي مع دمشق الذي بدأت ملامحه في اجتماع عمّان وترسخ في القمّة العربية في جدّة، وارتكز على عدة نقاط، أهمها وقف تصنيع المخدّرات وتهريبها عبر سورية إلى دول الجوار، وتخفيف الوجود المليشياوي على الأراضي السورية، والإفراج عن المعتقلين، وتأمين البيئة الآمنة لعودة اللاجئين السوريين، مقابل دعم مادي عربي لدمشق، وعلى مبدأ خطوة مقابل خطوة مع السعي إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 2254.
نظام دمشق الذي عبر أكثر من مرّة عن عدم ارتياحه للخطوات العربية والبطء في تنفيذ العرب وعودهم، بعد أن اعتبر على لسان وزير خارجيته، فيصل المقداد، أن حكومته طبقت كامل القرار 2254، وتنتظر ما وعدت به. وعلى أرض الواقع، لم تتوقف عمليات تهريب المخدرات، بل زادت، وتفنّن أرباب تلك التجارة بابتكار طرق جديدة لتهريبها إلى الأردن وعبرها إلى الخليج العربي، وحتى طائرات الدرون (المسيّرات) باتت إحدى وسائل تلك التجارة المدمّرة للشباب العربي. أما بقية شروط العرب، من حيث وجود المليشيات على الأرض السورية، فقد شهدت المرحلة الأخيرة زيادةً في جرعات قوافل الأسلحة الإيرانية والعناصر البشرية المنقولة إلى سورية، سواءً عبر سفن النفط الإيراني إلى مرفأ بانياس، أو عبر الكوريدور الإيراني البرّي في البوكمال على الحدود السورية العراقية، أو عبر الطيران المدني، حيث أفاد تقرير صادر عن معهد واشنطن بأن الحرس الثوري الإيراني أنشأ خطوطه الجوية التي تؤمن له نقل السلاح إلى سورية وعبرها إلى حزب الله من خلال شركات ماهان للطيران وطيران بويا وطيران بارس التابعة له، مع العلم أن شركتي "بارس للطيران" و"ياس للطيران"، وكلتاهما تتبعان الحرس الثوري الإيراني أيضاً، صنّفتهما الولايات المتحدة من الكيانات الإرهابية في عام 2012. وبالتالي، لم تلتزم دمشق بتاتاً بما تعهدت به، خصوصا إذا ما أضيف ملف عودة اللاجئين الذي تعاملت معه دمشق بعدم المسؤولية، ما دفع أحد حلفائها بلبنان (وزير المهجّرين في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية) إلى كفّ يده عن الأمر والتراجع عن خطةٍ كان يعمل عليها لإعادة ألوف اللاجئين السوريين، بعد أن اعتقلت أجهزة استخبارات الأسد بعض العائدين وعرقلة عودة كثيرين ممن قدّمت أسماؤهم عبر وزارة المهجّرين في لبنان.
ازدادت قوافل السلاح الإيراني نحو سورية، مع منح إيران مزيدا من المزايا في الاقتصاد السوري وعمليات التشييع وشراء العقارات والسيطرة على مؤسّسات الدولة
كان للأحداث الداخلية وعودة الحراك الثوري عبر المظاهرات أثر فعّال في فرملة الاندفاعة العربية نحو دمشق، فالتقارير التي قدّمها وزير الخارجية، فيصل المقداد، من خلال اجتماعاته، في عمّان وفي بعض العواصم العربية، تضمّنت تأكيداتٍ عن حسم النظام وسيطرته وانتهاء ما سمّي الربيع العربي في سورية، لكن انفجار الوضع في جبل العرب، وشبه فقدان سيطرة النظام على الجنوب السوري بعد عودة الحراك الثوري إلى سهل حوران. وتضاف أيضاً الصرخات القوية التي خرجت من الساحل السوري عبر ناشطين سياسيين، مثل أيمن فارس وماجد دواي وفراس غانم وأحمد إسماعيل، وإن اعتقلت استخبارات الأسد ثلاثة منهم، لكنها تبقى مؤشّرات تدلل على أن ثورة السوريين قد تكون خبت قليلاً، لكنها ما تزال جمراً تحت الرماد، وهي قابلة للاشتعال في أي لحظة، خصوصا أن انتفاضة جبل العرب (الدروز) وصرخات الناشطين السياسيين في الساحل السوري (العلويين) قد جرّدت نظام الأسد من أهم الأوراق التي تاجر بها 12 عاماً، وهي ورقة حماية الأقليات التي كانت في حقيقتها احتماء النظام بالأقليات، وليس حمايتها. ومع عجز النظام عن مواجهة جبل العرب بالسلاح والقوة العسكرية عبر جيشه ومليشيات حلفائه كما سبق وواجه الثوار في كل المحافظات السورية المنتفضة، واستخدم ضدّهم الصواريخ والدبابات والبراميل وغيرها، وحتى السلاح الكيميائي، استخدمه في عدة مواقع سورية، أبرزها في الغوطة الشرقية وخان شيخون، لكن عجزه عن تكرار هذا السيناريو دفعه إلى إرسال تحذيرات استخباراتية وتهديدات عبر أحد إعلامييه (حسين مرتضى) الذي خرج بتسجيل مصوّر، ليحذّر بأن الولايات المتحدة تحضّر لإرسال مفخّخات وانتحاريين من قاعدة التنف التي تسيطر عليها قوات التحالف على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، من أجل خلط الأوراق في جبل العرب وتأليب الدروز ضد النظام.
ولكن كل من استمع لتلك الرسالة فهم مغزاها أن هذا السيناريو قد تلجأ إليه استخبارات الأسد إذا ما استمر حراك السويداء، خصوصا بعد أن انتقلت هتافاتهم من شعارات مطلبية خدماتية إلى هتافاتٍ سياسية تطالب برحيل النظام، وحطمت تماثيل لحافظ الأسد في شوارع السويداء.
كل المؤشّرات تقول إن الصبر الاستراتيجي للعرب بعيد المدى، وإن لهم القدرة على الثبات على مواقفهم، وإن الأسد سيصرخ أولاً، عاجلاً أم آجلاً
نظام الأسد الذي يعيش أوضاعاً اقتصادية غاية بالسوء بعد انخفاض سعر الليرة السورية، وضعف القدرة الشرائية للمواطن، مع غياب معظم خدمات الدولة عن السوريين، وزاد الطين بلة برفع الدولة للدعم عن بعض السلع الأساسية ورفع أسعار المشتقات النفطية، وخصوصا مادة المازوت التي رفعت الأسعار، بحيث أصبح راتب الموظّف السوري لا يكفي أكثر من يومين أو ثلاثة على أكبر تقدير. ويعكس هذا الأمر مدى استهتار نظام الأسد بالبحث عن أي حلولٍ تنهي مأساة السوريين وإصراره على تطبيق أجنداته الخاصة التي تُرضي دمشق وطهران والضاحية الجنوبية، من دون أي اكتراث لما تعهد به في لقاءاته مع العرب في جدّة أو عبر الرسائل التي حمَلها لوزير خارجيته المقداد بزياراته عمّان أو القاهرة أو الرياض.
من حقّ العرب التراجع خطواتٍ إلى الخلف، وليس خطوة واحدة، أمام الطريقة السلبية لتعاطي نظام الأسد مع المطالب العربية، وحمل بطّيختين بيد واحدة، أمر في غاية الصعوبة، فلا يمكن للأسد الاحتفاظ بإيران، وفي الوقت نفسه، كسب ود العرب ونيل ثقتهم والحصول على أموالهم. ويبدو أن تكتيك الهروب نحو الأمام هو آخر سهام النظام، حيث لوحظت، في المرحلة الأخيرة، زيادة في عملية تهريب شحنات المخدّرات نحو الأردن ودول الخليج كأنها نوع من الضغط على العرب. وفي الوقت نفسه، ازدادت قوافل السلاح الإيراني نحو سورية، مع منح إيران مزيدا من المزايا في الاقتصاد السوري وعمليات التشييع وشراء العقارات والسيطرة على مؤسّسات الدولة.
هي لعبة عضّ الأصابع بين العرب والأسد، ومن يصرخ أولاً يخسر المعركة. ولكن كل المؤشّرات تقول إن الصبر الاستراتيجي للعرب بعيد المدى، وإن لهم القدرة على الثبات على مواقفهم، وأن الأسد سيصرخ أولاً، عاجلاً أم آجلاً.