التغريبة السورية تفتقد حاتم علي
إجماعٌ كبيرٌ على قيمة حاتم علي مخرج دراما، وحول شخصه. وهناك من شقَّ هذا الإجماع، وهذا حقّه، وفقط لو لم يسفّ. هو شذوذٌ يُثبت القيمة والأهمية. جال الراحل بفنونٍ متعدّدة: المسرح والتمثيل والقصة والسيناريو وغيرها، وتألق في الإخراج التلفزيوني والسينمائي؛ وأثبت فشلَ مقولة تتكرّر، عن أن الإنسان يبدع في حقلٍ ويفشل في حقول أخرى. وبذلك ينتمي حاتم للتمرّد، للتعدّد، للتفلسف، للقديم الأصيل، ويرفض البديهيات المتهافتة، أي الدوران في حقل الاختصاص، والقطيعة مع سواه.
برزت أصالة حاتم علي من خلال تشريح الحاضر، وتقديمه دراما راقية ومشغولة فكرياً واجتماعياً، والأمر ذاته حينما اتجه نحو التاريخ، وأصاب في اختيار ممثليه. لقد شكل ثنائياً متيناً مع أكثر من كاتب، وتميز مع وليد سيف في أكثر من عمل، سيما ثلاثية الأندلس و"التغريبة الفلسطينية"، وكذلك مع ممدوح عدوان في "الزير سالم". إنتاجه غزير، ومواضيع أعماله الدرامية دقيقة وجذرية؛ ففكّك الفساد والاستبداد، وأضاء واقع المرأة، وأشار إلى ضرورة رفع الغبن عنها. فعل الشيء ذاته بالتراث "صقر قريش، ملوك الطوائف، عمر، صلاح الدين الأيوبي، وغيرها"؛ وبذلك لا يستخفّ حاتم بذاته، ولا بالتاريخ، أو بقيمة الدراما.
أثار رحيل حاتم علي الصادم نقاشاتٍ بائسةٍ، تتكرّر كثيراً منذ بداية الثورة السورية 2011. وتتناول علاقة الفن بالسياسة والثورة. أسوأ صفاتها مذهبيتها وعقائديتها: إمّا أو؟!
سَحرَ الشارع العربي في ثلاثة مسلسلات عن الأندلس، وفي الزير سالم، وحَلّقَ في "التغريبة الفلسطينية". نال ذلك حين عُرِضت أعماله أوَّل مرّةٍ. وبوفاته، أَعلن كثرٌ إن مسلسلاته كانت حاضرة في بيوتاتهم، وهو بذلك يعيد إنتاج الهوية السورية التي تصدّعت منذ أحكم الاستبداد سلطته، وبدأت الفضائيات تُعيد بث مسلسلاته. هذا ليس بسيطاً، هذا يعني أن لدى هذا الرجل مشروعا ثقافيا يبثه في أعماله، ولو أضفنا شروط سورية الكارثية لجهة الحريات، فإنه أبدع في أسوأ بيئة سياسيّةٍ، حيث تُصادر الحريات والإبداع والصحافة والسياسة، وبل والأنا كذلك. والأنا قضية حاسمة لدى كل مبدع وكاتب ومخرج، وكل عاملٍ في الوسط الثقافي والأدبي، أي من دون أنا عالية ومستقلة، لا يمكن إنجاز أعمال ثقافية وأدبية ذات أهمية حقيقية. إذاً تُرفع القبعات لهذا الرجل، ابن القنيطرة، والذي خرج من مخيم الحجر الأسود في دمشق، والمجاور لمخيم اليرموك، وراح يعمل على مشروعه الثقافي عبر إنتاجه الإبداعي.
أثار رحيله الصادم نقاشاتٍ بائسةٍ، هي تتكرّر كثيراً ومنذ بداية الثورة السورية 2011. وتتناول علاقة الفن بالسياسة والثورة. أسوأ صفات تلك النقاشات مذهبيتها وعقائديتها: إمّا أو، وكأنّ على الأفراد أن يكرّروا أنفسهم، ويقولوا، وبالفم الملآن، إنهم مع الثورة، وإلّا فهم ينامون في حضن النظام، قريري العين، هادئي البال، وعكس ذلك يكرّر "صبيان النظام". هذا إسفافٌ وخفّة كبيرة في فهم التنوع والتعدّد واختلاف آليات التعبير، وهو، بأبسط الأحوال، هدر لكرامة الإنسان وحقه في الاختيار لشكل المشاركة في الثورة والانحياز للشعب، أو رفض ذلك كله كذلك.
لم يشارك حاتم علي في تظاهرات الثورة وفعالياتها حينما حدثت في سورية وطال أمدها، كما فعل فنانون آخرون
يُروَى أن حاتم علي، وزوجته السيناريست دلع الرحبي، شاركا في إحدى الوقفات الاحتجاجية أمام السفارة الليبية في دمشق في فبراير/ شباط 2011، وأطلق عالياً، جملة مندّدة بعناصر الأمن السوري حينها، توضح أنه يرفض النظام، بقضّه وقضيضه. لم يشارك في تظاهرات الثورة وفعالياتها حينما حدثت في سورية وطال أمدها، كما فعل فنانون آخرون. ووفقاً لهذا القياس لدى بعضهم، يبدو الرجل كأنّه رمادي أو مستفيد من النظام. ويرى هؤلاء أن كل رمادي سلطوي بالضرورة. ولكن لكل حقلٍ من حقول الإبداع طريقته في التعبير، وفي الإعلان عن مواقفه، وفي ظل الاستبداد الشديد، هناك الخوف. نعم الخوف؛ من حق الإنسان أن يخاف، بكل بساطة، ومن حقه أن يكون جريئاً وشجاعاً، أمّا إدانة أحدهم فتكون عبر مواقفه المعلنة. هذا ما لم يفعله حاتم علي، لم ينضم للثورة، ولكنه لم ينضم للنظام، وكانت أعماله اللاحقة على 2011، وحتى الموقف السيئ لنقابة الفنانين السورية التابعة للنظام، وكذلك عدم مشاركتها في تأبينه، يدلّان على أن الرجل ليس رمادياًّ ولا نكرة، بل رافض للنظام. رجل مثل حاتم علي، والأضواء كاملة عليه، ويرفض الانضمام للنظام، هذا ليس بسيطا على الإطلاق.
المعبّرون عن الثورة، وأقصد المعارضة، ظهروا رديئين في كل ما قدّموه، وهذا بعكس مشروع حاتم علي الذي كان وطنيّاً بامتياز، وعروبيّا عبر "التغريبة الفلسطينية" بامتياز، ومعتزّاً بتاريخه كذلك. صفات كثيرة يتميز بها مخرجنا، وهي ترغب بثورة جذرية في وطنيتها، ولكن ذلك لم يره، فصمت عن ظاهر القول، على الرغم من علو صوته أمام السفارة، وفي النهاية ترك البلاد، وهذا إعلان احتجاجٍ واضح، ولو رغب بتأييد النظام لكان الآن يحتل رئاسة مجلس الشعب أقلّها.
إطالة عمر الثورة ليست مسألة هَيّنة، فهي مُربِكة للجميع، وهذا حال أهل الثورة وأهل النظام والثورة ذاتها
إطالة عمر الثورة ليست مسألة هَيّنة، فهي مُربِكة للجميع، وهذا حال أهل الثورة وأهل النظام والثورة ذاتها؛ فتغيّرت المواقف، والحدود والمدن، بل وطاول الأمر ملايين الناس، فهُجروا وأفقروا أكثر فأكثر، وهناك الاحتلالات والمستقبل المفتوح على احتمالاتٍ شتى. في هذه الأجواء، يترك حاتم البلاد، كما يرغب جميع السوريين، حيث كان أمام مصيرٍ يشبه مصير المخرج نجدت أنزور أو الهجرة، فاختار الهجرة والصمت بدلاً عن الموقف العلني، وتابع إخراج أعمال تلفزيونية، وكان يعدُّ لسواها، وربما يجمع أوراق تغريبتنا السوريّة. هذه قضية مطروحة للنقاش، وهي: متى يكون الفن مطابقاً للواقع، وهناك من يؤكّد أن الفن عادة ما يتأخر في التعبير عن الواقع. وبالطبع، هناك فن يستشرف المستقبل. كارثية الوضع السوري، منذ 2011، تدفع المبدع إلى الجلوس جانباً، سيما أصحاب الأعمال الدرامية التي تبتغي التعبير عن الواقع والمساهمة في تغييره، وبالتالي كيف ستُكتب التغريبة السورية؟ ومن سيكتبها، والواقع لم يستقر بعد؟ يمكن إضافة أن تلك الإطالة تدفع الأفراد إلى التفكير بخيار العودة إلى العيش في ظلِّ النظام كذلك، وهذا حقٌّ أيضاً، ألم يفعل كثرٌ من أهل الثورة ذلك، ثواراً، ومثقفين، ومسلحين، وأفراد شعب.
أسديّة أم ثوريّة؛ ليست هذه مواقف جذريّة، ربما هي صوريّة محضة، هي سياسوية بامتياز، ورؤية محدودة للسياسة وللثقافة وللثورة وللإبداع. فكما أوضحت، هناك آليات مختلفة للتعبير، وهي متمايزة وفقاً للشكل الفني. أمّا مفاهيم علم السياسة فلها لغتها وبياناتها وسوى ذلك.
خسرت سورية في وفاة حاتم علي أبرز قامة إبداعية، بل خسرت مشروعاً ثقافياً للدراما، ولا رجلاً بكاه السوريون "موالين ومعارضين" في الأيام الأخيرة كثيراً. والسؤال: هل من قدرة إخراجية أخرى تخرج دراميّاً التغريبة السورية؟ نقول نعم، كما كتب وليد سيف في مقالته في "العربي الجديد".