التفجيران وتحولات المتطرّفين في غزة
حمزة إسماعيل أبو شنب وحسن كمال
تعتبر حادثة التفجيرين اللذين استهدفا حاجزين لشرطة المرور في قطاع غزة مساء الثلاثاء 27 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) هي الحادثة الانتحارية الهجومية الأولى التي تقوم بها عناصر متطرّفة ضد مقدّرات حكومية في قطاع غزة، إذ فجّر اثنان نفسيهما في فترة متقاربة، الأمر الذي يفتح مسارًا جديدًا في العلاقة بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والسلفية الجهادية بنسخها الأكثر تطرّفًا، في ظل حالة من المراوحة السياسية والاقتصادية الذي يعيشها قطاع غزة، وتهديدات أمنية عديدة تواجهها "حماس".
وتطرح هذه العملية أسئلة عديدة، أهمها عن الدافع الذي يجعل شبابًا فلسطينيين يتركون الاحتلال الإسرائيلي الذي يبعد كيلومترات، ويتوجهون إلى حاجز فلسطيني ويفجرونه، ما يؤكد أهمية معرفة التحولات النفسية والفكرية التي مرّ بها المتأثرون بالسلفية الجهادية في غزة منذ تبلورها عام 2006، وخطورة هذا النمط من التفكير أولًا والعمليات ثانيًا، وما يسببه من تشتيت الجهد الفلسطيني عامة، والغزّي خصوصًا، في معركته الأساسية حاليًا في كسر الحصار، وتخفيف الأزمات الحادة التي يعانيها.
وتشي حادثة التفجيرين أخيرًا بتحولات واضحة في توجهات العناصر المحسوبة على السلفية الجهادية، وهي تحولات ظهرت بعد نشوء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2014، إذ بدأ هذا التوتر بشكل واضح عقب فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006، غير أن البداية كانت أن هذه العناصر كان تحاول، قدر الإمكان، عدم الاصطدام بحركة حماس
عسكريًا، وإن كان خطابها تصادميًا وعنيفًا تجاهها، فقد كان عنفها "الهجومي" محسوبًا، ويقتصر على تفجير مركبات فارغة لقيادات من الحركة ولمسؤولين في الحكومة الفلسطينية. ولم يكن التفكير بتنفيذ هجمات انتحارية ضد أهداف تابعة لحكومة قطاع غزة قائمًا، حتى في أشد الحالات التي اصطدمت فيها "حماس" بالجماعات السلفية، مثل حادثتي الصبرة في 2007 ومسجد ابن تيمية في 2009. ولكن بدا، منذ عام 2014، أن هناك توجهات جديدة تعتمد على أدبيات تنظيم الدولة الإسلامية، والذي اتخذ خطابًا شديد التطرّف تجاه حركة حماس، وهو خطاب لم يكن خافيًا مع بداية تكون التنظيم المذكور في العراق منذ 2008، واستمر بعد الانطلاقة الثانية في 2014. يضاف إلى ذلك النموذج العسكري الذي قدّمه التنظيم، من حيث الاستخدام الواسع للعنف من دون أي ضوابط أو محاذير، وهو ما ألهم عناصر كثيرة متعاطفة معه في قطاع غزة، ففي عام 2015، فجّرت عناصر جهادية أكثر من ست عربات عسكرية لكتائب عز الدين القسام وسرايا القدس في توقيت متقارب.
وقد استوعب تنظيم الدولة في العراق والشام عناصر جهادية عديدة قادمة من قطاع غزة، وأعطاها معسكراتٍ للتدريب والتنظير، بل وتولى بعضها مناصب أمنية وعسكرية مهمة في التنظيم، ففي يونيو/ حزيران 2015، أشهر إصدارًا هاجم فيه حركة حماس، ودعا إلى مقاتلتها، وذلك عبر عناصر من قطاع غزة، كما هاجم مخيم اليرموك في دمشق، في هجوم سماه "غزوة أبو النور المقدسي"، تيمنًا بعبد اللطيف موسى، الأب الروحي لأحداث مسجد ابن تيمية في رفح عام 2009. وكانت الحادثة الأبرز إعدام تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء عنصرًا فيه اتهمه بالتعاون مع حركة حماس في عام 2018، وقد أعلن تكفير الحركة في الإصدار نفسه.
وكان من الطبيعي أن تثمر هذه التعبئة الفكرية والأيديولوجية ضد "حماس" في بعض الخلايا المتأثرة في التنظيم، في ظل انتشار واسع لأفكاره في دول ومجتمعات عديدة، فكيف بمجتمع توجد فيه، إلى حدٍ ما، بنى سلفية، تعمل تحت مسميات تنظيمية أخرى أو بنفسها. وقد ترجم هذا السلوك غير الاعتيادي، أول مرة، حينما فجّر مقاتل محسوب على هذه العناصر نفسه وسط مجموعة تابعة للضبط الميداني جنوب قطاع غزة، في أثناء محاولته التسلل إلى سيناء، للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية هناك، وذلك في أغسطس/ آب 2017، لتكون تلك
الحادثة الأولى في التاريخ الفلسطيني لشخصيةٍ تفجّر نفسها وسط مجموعة من الفلسطينيين. منذ تلك اللحظة، بدا واضحًا أن هناك تغيرًا ليس في توجهات هذه العناصر ومزاجها الفكري فحسب، بل تغيرًا في سلوكها العام، وجرأتها على تنفيذ أفعالٍ عديدة غير مألوفة.
يمكن النظر إلى خطورة حدث تفجيري الحاجزين في قطاع غزة أخيرًا من ثلاث زوايا: الأولى، حالة الضغط الاقتصادي والسياسي الذي يعيشه القطاع، في ظل انعدام الأفق العام لمستقبل القطاع لدى شرائح كثيرة في المجتمع الفلسطيني، ما يلحق أذىً واضحًا في أنوية المجتمع المتماسكة، وخصوصًا المنظومة الأمنية، في حال استمرت ضربات من هذا النوع ضدها، على الرغم من أن المفترض أن الوجهة الأساسية لأي قوة داخلية هي الاحتلال. الثانية، محاولة الفصائل الفلسطينية تحشيد المجتمع تجاه الاحتلال، كونه الطرف الأساسي والأهم في معادلة الحصار، وتمثل ذلك في مسيرات العودة وكسر الحصار، وأي تشتيتٍ لهذه الجهود العامة عبر افتعال معارك بينية دموية ستكون له أبعاد خطيرة مستقبلًا. الثالثة، حالة "الانكشاف" الأمني لهذه الجماعات أمام أجهزة مخابرات عديدة، وخصوصًا جهاز الشاباك الإسرائيلي (المخابرات الداخلية)، ما يفتح المجال واسعًا لتوجيه بعض هذه العناصر إلى تحقيق أهداف أمنية لا تناسب حتى مصالح هذه الجماعات. ويمكن الاستشهاد بعملية اغتيال أحد المنتمين لهذه الجماعات الشهيد مازن فقهاء في عام 2018. وقد جاءت واقعة تفجير الحاجزين في سياق غير مفهوم، في ظل توتر الأحداث في الجبهة الشمالية، وبعد يوم من استهداف اثنين من عناصر حزب الله، واستهداف ما تسمى "مصانع السلاح" عبر طائرات مسيّرة، وذلك بدون أي سياقات عدائية بين حركة حماس وعناصر سلفية سبقت هذا الحدث، فلا نتحدث عن ردة فعل مفهومة في سياق عدائي واضح.
وعلى صعيد السلفية الجهادية في قطاع غزة، يبدو أن التوجهات العامة للأفراد بدأت تغير من تكتيكاتها السابقة، والتي تعتمد على تشكيل جماعات وتشكيلات واسعة، وتتجه أكثر نحو العمل الفردي، واعتماد استراتيجية "الذئاب المنفردة"، الأمر الذي ينذر بعواقب خطيرة على السلم المجتمعي، في ظل انتشار السلاح والمتفجرات في القطاع بشكل كبير، وسهولة اكتساب الخبرات التصنيعية والعسكرية. والأخطر صعوبة التنبؤ بتوجهات هذه العناصر، نظرًا إلى أن العمل الفردي غير قابل للكشف استخباريًا، وهو قضية تؤرق معظم أجهزة الاستخبارات التي تعاملت مع هذا النمط من العمليات.
بالإضافة إلى ذلك، يتضح أن انتماء العناصر التي نفذت الهجوم أخيرًا إلى فصائل عسكرية لإبعاد أي اشتباه أمني ضد هذه العناصر، والاستفادة من المناخ العام الذي توفره الفصائل من
سلاح وتدريب. ولكن الإشكالية تكمن في إمكانية توتر علاقة هذه الفصائل مع "حماس". ولكن الوعي العام، سواء للحركة أو للفصائل الفلسطينية، متماسك، ولديه القدرة على استيعاب أي خلل من هذا النوع في ظل حالة التنسيق العالي، والتعاون المشترك فيما بينها، وثقة الفصائل الفلسطينية بالأجهزة الأمنية العاملة في قطاع غزة، ويمنع أي حالة تعكير في المناخ العام.
وعلى الرغم من خطورة الحدث الانتحاري أخيرًا في قطاع غزة، وما سببه من خسائر بشرية، ما كان لزامًا أن تكون في أحداثٍ كهذه، إلا أن قدرات الخلايا السلفية ما زالت محدودة التأثير، وغير قادرةٍ على إحداث تغيرات وتحولات جذرية في مكونات قطاع غزة، لأسبابٍ عديدة، أهمها تماسك المنظومة الأمنية في قطاع غزة، والفجوة العسكرية الواسعة بين "حماس" وبقية المكونات العسكرية، بالإضافة إلى عدم وجود حواضن اجتماعية أو فكرية أو عسكرية لهذه المدرسة في قطاع غزة. كما أنه لم تتخلق حالة من الفوضى العامة، تسمح بانتشار هذه الجماعات وتكوّنها، لتصبح معادلة أساسية في غزة، فمنذ عقدٍ تقريبًا، كانت سمة أي فعلٍ لهذه الجماعات هو "المبادرة لمرة واحدة" فقط، تتبعها ضربات جراحية واسعة، تقوم بها أجهزة قطاع غزة الأمنية ضدها، لكن الإشكالية الأبرز لهذه الجماعات تكمن في إحداث تشتيت داخلي في المجتمع الفلسطيني فترة محدودة في ظل معركته الأساسية مع الاحتلال الإسرائيلي، وإمكانية إزعاج المجتمع بأزماتٍ هو في غنى عنها حاليًا.
وتشي حادثة التفجيرين أخيرًا بتحولات واضحة في توجهات العناصر المحسوبة على السلفية الجهادية، وهي تحولات ظهرت بعد نشوء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2014، إذ بدأ هذا التوتر بشكل واضح عقب فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006، غير أن البداية كانت أن هذه العناصر كان تحاول، قدر الإمكان، عدم الاصطدام بحركة حماس
وقد استوعب تنظيم الدولة في العراق والشام عناصر جهادية عديدة قادمة من قطاع غزة، وأعطاها معسكراتٍ للتدريب والتنظير، بل وتولى بعضها مناصب أمنية وعسكرية مهمة في التنظيم، ففي يونيو/ حزيران 2015، أشهر إصدارًا هاجم فيه حركة حماس، ودعا إلى مقاتلتها، وذلك عبر عناصر من قطاع غزة، كما هاجم مخيم اليرموك في دمشق، في هجوم سماه "غزوة أبو النور المقدسي"، تيمنًا بعبد اللطيف موسى، الأب الروحي لأحداث مسجد ابن تيمية في رفح عام 2009. وكانت الحادثة الأبرز إعدام تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء عنصرًا فيه اتهمه بالتعاون مع حركة حماس في عام 2018، وقد أعلن تكفير الحركة في الإصدار نفسه.
وكان من الطبيعي أن تثمر هذه التعبئة الفكرية والأيديولوجية ضد "حماس" في بعض الخلايا المتأثرة في التنظيم، في ظل انتشار واسع لأفكاره في دول ومجتمعات عديدة، فكيف بمجتمع توجد فيه، إلى حدٍ ما، بنى سلفية، تعمل تحت مسميات تنظيمية أخرى أو بنفسها. وقد ترجم هذا السلوك غير الاعتيادي، أول مرة، حينما فجّر مقاتل محسوب على هذه العناصر نفسه وسط مجموعة تابعة للضبط الميداني جنوب قطاع غزة، في أثناء محاولته التسلل إلى سيناء، للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية هناك، وذلك في أغسطس/ آب 2017، لتكون تلك
يمكن النظر إلى خطورة حدث تفجيري الحاجزين في قطاع غزة أخيرًا من ثلاث زوايا: الأولى، حالة الضغط الاقتصادي والسياسي الذي يعيشه القطاع، في ظل انعدام الأفق العام لمستقبل القطاع لدى شرائح كثيرة في المجتمع الفلسطيني، ما يلحق أذىً واضحًا في أنوية المجتمع المتماسكة، وخصوصًا المنظومة الأمنية، في حال استمرت ضربات من هذا النوع ضدها، على الرغم من أن المفترض أن الوجهة الأساسية لأي قوة داخلية هي الاحتلال. الثانية، محاولة الفصائل الفلسطينية تحشيد المجتمع تجاه الاحتلال، كونه الطرف الأساسي والأهم في معادلة الحصار، وتمثل ذلك في مسيرات العودة وكسر الحصار، وأي تشتيتٍ لهذه الجهود العامة عبر افتعال معارك بينية دموية ستكون له أبعاد خطيرة مستقبلًا. الثالثة، حالة "الانكشاف" الأمني لهذه الجماعات أمام أجهزة مخابرات عديدة، وخصوصًا جهاز الشاباك الإسرائيلي (المخابرات الداخلية)، ما يفتح المجال واسعًا لتوجيه بعض هذه العناصر إلى تحقيق أهداف أمنية لا تناسب حتى مصالح هذه الجماعات. ويمكن الاستشهاد بعملية اغتيال أحد المنتمين لهذه الجماعات الشهيد مازن فقهاء في عام 2018. وقد جاءت واقعة تفجير الحاجزين في سياق غير مفهوم، في ظل توتر الأحداث في الجبهة الشمالية، وبعد يوم من استهداف اثنين من عناصر حزب الله، واستهداف ما تسمى "مصانع السلاح" عبر طائرات مسيّرة، وذلك بدون أي سياقات عدائية بين حركة حماس وعناصر سلفية سبقت هذا الحدث، فلا نتحدث عن ردة فعل مفهومة في سياق عدائي واضح.
وعلى صعيد السلفية الجهادية في قطاع غزة، يبدو أن التوجهات العامة للأفراد بدأت تغير من تكتيكاتها السابقة، والتي تعتمد على تشكيل جماعات وتشكيلات واسعة، وتتجه أكثر نحو العمل الفردي، واعتماد استراتيجية "الذئاب المنفردة"، الأمر الذي ينذر بعواقب خطيرة على السلم المجتمعي، في ظل انتشار السلاح والمتفجرات في القطاع بشكل كبير، وسهولة اكتساب الخبرات التصنيعية والعسكرية. والأخطر صعوبة التنبؤ بتوجهات هذه العناصر، نظرًا إلى أن العمل الفردي غير قابل للكشف استخباريًا، وهو قضية تؤرق معظم أجهزة الاستخبارات التي تعاملت مع هذا النمط من العمليات.
بالإضافة إلى ذلك، يتضح أن انتماء العناصر التي نفذت الهجوم أخيرًا إلى فصائل عسكرية لإبعاد أي اشتباه أمني ضد هذه العناصر، والاستفادة من المناخ العام الذي توفره الفصائل من
وعلى الرغم من خطورة الحدث الانتحاري أخيرًا في قطاع غزة، وما سببه من خسائر بشرية، ما كان لزامًا أن تكون في أحداثٍ كهذه، إلا أن قدرات الخلايا السلفية ما زالت محدودة التأثير، وغير قادرةٍ على إحداث تغيرات وتحولات جذرية في مكونات قطاع غزة، لأسبابٍ عديدة، أهمها تماسك المنظومة الأمنية في قطاع غزة، والفجوة العسكرية الواسعة بين "حماس" وبقية المكونات العسكرية، بالإضافة إلى عدم وجود حواضن اجتماعية أو فكرية أو عسكرية لهذه المدرسة في قطاع غزة. كما أنه لم تتخلق حالة من الفوضى العامة، تسمح بانتشار هذه الجماعات وتكوّنها، لتصبح معادلة أساسية في غزة، فمنذ عقدٍ تقريبًا، كانت سمة أي فعلٍ لهذه الجماعات هو "المبادرة لمرة واحدة" فقط، تتبعها ضربات جراحية واسعة، تقوم بها أجهزة قطاع غزة الأمنية ضدها، لكن الإشكالية الأبرز لهذه الجماعات تكمن في إحداث تشتيت داخلي في المجتمع الفلسطيني فترة محدودة في ظل معركته الأساسية مع الاحتلال الإسرائيلي، وإمكانية إزعاج المجتمع بأزماتٍ هو في غنى عنها حاليًا.