التفكير المنظومي وسؤال الذاكرة الحضارية
من أكثر أهدف إثارة الأسئلة أهمية اعتماد الفكر الشبكي والمنظومي، الذي يسهم بدوره في إنتاج الأنساق المعرفية والحركية على نحو فعّال، وقد تكون محاولة الإجابة عن السؤال النهضوي بمنظومة أسئلته المتتابعة والمتراكمة هي المنهج الصحيح في مثل هذه الشبكة من أسئلة النهوض والتغيير والإصلاح. وفي هذا الصدد، يجب أن نتساءل عن الناظم ذلك السؤالَ المجمع من جهة، وربط تلك المنظومة بنسق التغيير والإصلاح والنهوض، من جهة أخرى.
عندما شرع كاتب هذه السطور في الكتابة عن أسئلة تولّدت وتفرّعت عن مسألة النهوض، قفز إلى ذهنه: لماذا الأسئلة والتفكير فيها يؤدّي بنا غالباً إلى الاختزال في الإجابة والاستجابة، أو الاقتصار على الأسئلة المنفردة والاستجابات المرتبطة بها على نحو من التجزيء والانفراد، ما دفع الكاتب إلى أصول الفكر المنظومي والتفكير بالأنساق، فربّما يعين طرح الأسئلة في شكل مصفوفات شبكية في تقديم الإجابة المركّبة الشبكية والعلائقية من دون الوقوع في براثن الاختزال أو عمليات التفكير الجزئي دون الكلّي، أو التحرّك إلى تقديم إجابات مبسّطة لا ترتقي إلى قيمة السؤال وتأثيره على مجمل مسألة النهوض التي تتراتب فيها مسألتَي الفكر والحركة.
ويعرّف بعضهم التفكير المنظومي بأنه القدرة على تحويل طريقة التفكير نماذجَ لفهم العلاقات المُركّبة؛ وهناك أربع عمليات معرفية يجب تطويرها للوصول إلى تفكير منظومي. أولاها السبب والنتيجة، فأساس التفكير المنظومي أن يكون من يقوم به واعياً بأنه يفكّر في نماذج واضحة، وتكون لديه القدرة على بنائها وتحليلها. أمّا ثانيتها، فالارتباط والعلاقة، أي معرفة الارتباط المباشر وغير المباشر والعلاقات المركّبة والسببية، لأن تحليل الموقف والمشكلة يتطلّب معرفة قوة الارتباط ونوع العلاقة. العملية المعرفية الثالثة فنسمّيها الجزء والكلّ، فالتفكير المنظومي تفكير دائري، ينمّي قدرة الفرد على الرؤية الشاملة لموضوع من دون أن يفقد جزئياته، وكذلك إنماء القدرة على التحليل والتركيب وعلاقة الكلّ بالجزء، وعلاقة الأجزاء بعضها ببعض، وعلاقة كلّ منها بالموقف الكلّي. أمّا الرابعة والأخيرة من هذه العمليات المعرفية فهي المدى القريب والبعيد؛ تفكير شبكي يربط بين الماضي والمستقبل ويقيس الآثار والمآلات.
التفكير المنظومي تفكير دائري، ينمّي قدرة الفرد على الرؤية الشاملة لموضوع من دون أن يفقد جزئياته
إن هذا المعنى المتعلّق بالتفكير المنظومي وعملياته ليس بعيداً من الفهم المنظومي للذاكرة الحضارية ناظماً بين التاريخ والتراث واللغة، ومن المهم أيضاً أن نفهم التفكير المنظومي، لا باعتباره تلقّياً آلياً، ولكن بِعَدِّه فعلاً إبداعياً، والانتقال إلى جوهر النماذجية الذي يشكّل معنى الانتظام الكامن في فكرة النماذج المعرفية التي عبّر عنها بعضهم بالنظام المعرفي. وأحد أكثر مزايا التفكير المنظومي أهميةً هي قدراته على بناء وإنتاج النماذج وتوليدها ضمن المجالات المعرفية على تنوّعها وتشكيلاتها، ضمن التعامل مع الأنساق الكلّية شمولاً وانفتاحاً في التفعيل والتشغيل، ومن هنا كان من الضروري أن نخرج من التفكير الخطّي أو السببية الصلبة، والوضعية الجامدة المنغلقة، وادّعاء الحياد العلمي، ووهم الصفحة البيضاء، إلى أبعاد أكثر تعقيداً تتعلّق بالفكر المركّب وحقائق الأنساق المعرفية المتعلّقة بالظواهر الإنسانية والاجتماعية، من خلال الشروع في إعادة تشييد أركان الفكر المنظومي وبنيانه، بما يحقّق رؤيةً معرفيةً أعمق، والتخلّص من الآلية السببية وإغراءاتها إلى آلية أبعد، تتعلّق بعمارة الأنساق الكلّية والتعرّف إليها.
إن الشروع في هذا الطريق المنهجي، والبحث عن مرشداته وتعيين مسالكه وطرائقه، ربمّا يكونان منهجاً مضموناً يستفيد من أصل التفكير المنظومي، وإلحاقه به، بما يفيد المنظومية الحيّة لا المنظومية الآلية في العلاقة بين عالم الأسباب. ربّما يكون هذا نقداً مبكّراً لكثير من المشاريع الفردية والمؤسّسية، التي غلبت عليها التفسيرات المغلقة لا المنفتحة. ومن هنا، فإن فقد صفة الاجتهاد المتجدّد والتجديد المتراكم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظر المحدود المغلق، الذي يفتقد المرونة والاجتهاد المستدام والتجريد المستمرّ، فمن أغلق الباب انغلق عليه الباب، وكأنّ الواقع قد توقّف عند اجتهاده، أو أن القيامة الفكرية والمعرفية قد قامت، فانتهى التاريخ وانتهى ما يتعلّق بالفرادة الإنسانية في قدرتها على التقييم والتقويم والتجديد والاجتهاد المستدام.
للقوة المتفوقة اليوم النصيب الأوفر والباع الأطول في إعادة تشكيل الخريطة الذهنية للمجتمعات البشرية
ومن هنا كان التفكير المنظومي يفيدنا لأن سؤال التاريخ منفرد من دون توظيفه في نسج خيوط الارتباط والتكامل والتراكم في الأسئلة، ضمن أنساق معرفية متنوعة، وضمن ارتباط بأصول التفكير المنظومي (الحي) لا الميكانيكي أو الآلي، والمجتمعات الحيّة أبعد ما تكون عن الميكانيكية الصلبة والآلية إلى الحركية الرحبة، التي تنشدّ إلى نقطة أو نقاط ارتكاز حقيقية لا مُتوهَّمة فتبنى على منظومة القدر المنضبط وادعاء الآلية أو المصادفة أو نظرية تطوّرية تتحدّث عن أصل الخلق، بتطوّرية تحوّلت تهيؤاتٍ لا تمتّ إلى الحقل العلمي بصلة ضمن دراسة الحيوانات الأقرب شبهاً بالإنسان، نظريات بدأت بالبقاء للأصلح، ثمّ طوّرت الأصلح بأنه بقاء للأقوى، وفاضت الرؤية من بعد ذلك إلى افتراضات ليس لها من أساس، تتحدّث عن ذكاء الجنس الأبيض وكبر مخّه وعبء الرجل الأبيض، الذي اتخذ من ذلك شعاراً لتبرير حركته الكولونيالية المسكونة بالعنصرية، فضاع معنى الإيمان "قدّر فهدى".
مثّل ذلك كلّه نسقاً كلّياً في تضميناته المعرفية، وآفاقه في الحركة والفاعلية، يتعلّق لزوماً بنسق "الذاكرة الحضارية"، والحديث عن الذاكرة التاريخية للأمّة، وقال جاسم سلطان في كتابه المهمّ "الذاكرة التاريخية للأمة" إن الحرب اليوم تدور حرباً "نفسية موجّهة لاستلاب العقول والقلوب، تتسم بأنها أشدّ ضراوة، وأخطر تأثيراً. تلك الحرب التي تأخذ مسارها على خريطة العالم، ولا تتوقّف آناء الليل وأطراف النهار، ناهيك عن الاحتراب الإعلامي الضخم الذي يستهدف المدارس والتعليم وعمليات التثقيف المختلفة. ومن خلال ذلك كلّه، يجرى تشكيل العقل - ليس في بلادنا فحسب - ولكن على مستوى العالم أجمع. وللقوة المتفوقة اليوم النصيب الأوفر والباع الأطول في إعادة تشكيل الخريطة الذهنية للمجتمعات البشرية. إن فهم هذه النقطة المحورية يعيننا على إدراك أهمية إحياء الذاكرة التاريخية للأمة. فالهجوم على التاريخ الإسلامي وإعادة تشكيله وانتقاصه وتعظيم تاريخ القوى الغازية لبلاد الإسلام تؤثر تأثيراً كبيراً حتى على صفوف من يُظن أنهم يقعون في طليعة المتحركين لعملية النهضة".
ترتبط الذاكرة الحضارية بالذاكرة الجمعية أو الجماعية، ضمن إعادة تركيبها واستثمارها في سياقات الذاكرة الاتصالية والتواصلية
والذاكرة الحضارية ترتبط بالذاكرة الجمعية أو الجماعية لزوماً، ضمن إعادة تركيبها واستثمارها ضمن سياقات الذاكرة الاتصالية والتواصلية، وهي ترتبط ضرورةً بالوعي والهُويَّة والمخيال السياسي على ما يرى إيان إيسمن في كتابه القيّم "الذاكرة الحضارية... الكتابة والذكرى والهُويَّة السياسية في الحضارات الكبرى الأولى".
وفي هذا المقام، علينا أن نعيد تركيب التصوّرات والقدرات، وبناء المناهج والمسارات الحضارية والثقافية والمعرفية، لتقديم المعنى الذي في مثلّث منظومي تشكّل فيه الذاكرة الحضارية المعنى الناظم والمغزى المتكامل. الذاكرة التاريخية إذاً تتراكب وتتفاعل فيها مفردات مهمّة؛ الذاكرة التاريخية، وتصورات الزمن، والذاكرة التراثية، ومعاني الاجتهادات البشرية المتعلّقة بالمثال والحال والمجال (تنوع تلك الاجتهادات، والذاكرة اللغوية، التي تشكّل الوعاء الأساسي للتعبير عن مكوّنات الذاكرة الحضارية ناظماً بين أضلاع هذا المثلث، ومحور عطاءاتها وتوظيفها واستثمارها في إطار قراءة واعية، قراءة الاعتبار وقراءة التوظيف والاستثمار.
ووفقاً لأصول التفكير المنظومي، فإن سؤال الذاكرة الحضارية الناظم تنتظم فيه أسئلة ثلاثة: سؤال الذاكرة التاريخية بين التأريخ وحركة التاريخ، وسؤال الذاكرة التراثية بين التقديس والتبخيس، وسؤال اللغة بين الخطاب الخبيث المسكون بالتلاعب اللغوي والخطاب الحبيس. والخروج من ذلك كلّه إلى دائرة الخطاب الحضاري النابع لا التابع؛ الخطاب الحرّ المنتج للنصوص الحرّة، والفطنة للمعاني العبدة، واعتماد جوهر المفاهيم الحرّة. ونختم ذلك بالكيفية التي يسكن كلّ منها في نسق الذاكرة الحضارية، والإمكانات التي يطرحها ذلك كلّه في بناء مشروع حضاري نهضوي جامع غير مانع من مواصلة الاجتهاد المستدام والتجديد الحضاري المتكامل والشامل.