التفكير في الراهن العربي
مرّت سنوات عديدة على رياح الثورات العربية وأعاصيرها، بكلّ ما حملته من مكاسب وترتَّب عنها من خيبات ومآزق في أغلب البلدان العربية. وقد آن الأوان عند التفكير في الراهن العربي أن نَتخلَّص من ثنائية الثورات العربية والثورات المضادّة، ونتّجه بدل المناكفات السهلة، المتمثلة في جملٍ من قَبِيل خروج الشارعين التونسي والسوداني، في الصباح، لمساندة كلّ من الرئيس التونسي قيس سعيّد وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وخروجهما ثانية في المساء، للتنديد بالأخير، والمطالبة بالعودة إلى البرلمان في تونس، نقول آنَ الأَوَان للتخلّص مِمَّا ذكرنا، وأن نتجه إلى استخلاص دروس من كلّ ما وقع، ومن كلّ ما كنا ننتظر حصوله من الحراك الاجتماعي الذي زعزع أركان أنظمة سياسية عربية ودفع أخرى إلى القيام بممارساتٍ وإعلان مواقف، بهدف محاصرة الحالة الثورية العربية ووقفها، خوفاً مِمَّا يمكن أن تلحقه بأنظمتها من زلازل.
تتشابه الأوضاع العربية اليوم، سواء في بلدان الثورات أو في البلدان العربية الأخرى، وهي، في مجموعها ومن دون استثناء، تعيش حالاتٍ من الاندحار والتراجع عن المبادئ الكبرى التي ناضلت أجيالٌ عربية من أجل بلوغها، نقصد بذلك مبادئ الاستقلال والحرية والدولة المدنية الديمقراطية... وما نُعاينه اليوم من تحوَّل قادةٍ عربٍ كثيرين إلى مجرّد وكلاء تابعين ومنفذين لاستراتيجيات قِوى إقليمية أو دولية، يدعو إلى قلقٍ كثير. أما دروب ما يُعرف بالانتقال الديمقراطي التي ولجتها بعض البلدان العربية بعد انفجارات سنة 2011 وما تلاها، فقد أفضت إلى نوع من العودة إلى ما قبل الانفجارات المذكورة، إذ عادت كثير من مظاهر الاستبداد والفساد، وتقلَّصت مساحات الحرية وغابت ملامح مجتمع المواطنة الذي لاحت تباشيره زمن الغليان الثوري العربي.
عادت كثير من مظاهر الاستبداد والفساد، وتقلَّصت مساحات الحرية وغابت ملامح مجتمع المواطنة الذي لاحت تباشيره زمن الغليان الثوري العربي
نعتبر أنّ ما يحصل اليوم في العالم العربي مرتَّب في سياق تاريخي معين، تتحمَّل فيه أنظمتنا ومجتمعاتنا ونخبنا النصيب الأول والأكبر. والتكالب والمؤامرات اللذان تمارسهما الأطراف الأخرى الإقليمية والدولية بِمَعِيَّتِنا، أو يمارسهما بعضنا ضد البعض الآخر، لحساب مصالح في أجندة القِوى الإقليمية والدولية، يندرجان ضمن السياق نفسه، بحكم أنّ التواطؤات القائمة والمُعلنة، وحسابات المصالح التي تقوم بها الأطراف المتصارعة داخل الأنظمة العربية المنهارة، أو الأنظمة التي تنتظر استكمال عمليات انهيارها، تمارس مع القِوى المتربصة بنا أدواراً مشتركة، الأمر الذي يسهّل عمليات التفكك الجارية، ويُمَكِّن، في النهاية، من عودة شكل من أشكال الاستعمار إلى البلاد العربية.
نستطيع أن نتحدّث اليوم عن جامِع واحد يشمل مختلف الأقطار العربية، يتعلق الأمر بالنفور من مبدأ الحوار والنفور من الإصلاح، والدخول، بَدَل ذلك، في دواماتٍ من التنافس غير المفهومة وغير محسوبة العواقب، وذلك بَدَل رسم سيناريوهات التعاون والتكامل والتنمية بلغة مقتضيات الظرفية العامة ومتطلبات الأزمنة الحديثة. ولعل تأمُّل ما يجري هنا وهناك في المشرق والمغرب العربيين يُظهر أنّ الأنظمة العربية تقوم اليوم بأدوار ترتبط أساساً بمصالح قِوَى أخرى، تاركةً مختلف الطموحات والآمال العربية جانباً.
تحتاج عمليات تفكيك معضلات الحاضر العربي إلى منازلاتٍ ثوريةٍ عديدة، من أجل تكسير القيود التي تَشُلُّ الطاقات والطموحات العربية
ليست الثورات المضادّة ما أوقف اندفاعة الثورات العربية، وعَطَّل مبدأ تطبيق الشعارات التي تَغَنَّى بها الشباب في كثير من ساحات المدن العربية، فالمسألة أَعْقَد من الثنائية التي أصبحت تجري على أكثر من لسان، ولا أتصوَّر أن الذين يكرّرونها كانوا يعتقدون أن الثورات العربية ستُستقبل بالأحضان! كما لا أتصوَّر أنهم يُغفلون مختلف أشكال التضامن التي نسجتها الأنظمة العربية المستبدّة مع بعضها .. وإذا كان ما تبقَّى من حكام أنظمة الفساد التي تعثرت فيها الثورات لا يتردّدون في تقسيم أوطانهم، بل وفي بيعها، فإنّ الأنظمة الأخرى اختارت طواعية القيام بأدوار الوساطة بين القِوى الاستعمارية ومجتمعاتها، وفي الحالات جميعها، تختفي العروبة ويختفي حلم التقدم العربي.
تحتاج عمليات تفكيك معضلات الحاضر العربي إلى منازلاتٍ ثوريةٍ عديدة، من أجل تكسير القيود التي تَشُلُّ الطاقات والطموحات العربية، والذين اعتبروا أنّ الثورات المضادّة هي سبب فشل الثورة في سورية، وهي سبب وَقْف الانفجارات المتأخرة في لبنان والجزائر والعراق، وأنّها سبب التعثر الذي لحق الثورات في مصر وتونس والسودان، كما أنّها وراء مختلف المشكلات المتواصلة في كلّ من اليمن وليبيا، يتناسون الإشارة إلى أخطاء من أوصلتهم صناديق الانتخابات إلى تدبير السياسات العامة، خلال مراحل ما بعد الثورة أو ما يُعرف بالمرحلة الانتقالية، في كل من تونس ومصر وليبيا والسودان. نتصوَّر أنّ المسألة أعْقَد من الثنائية الجارية اليوم في الإعلام العربي، إنها لا يمكن أن تفسّر وحدها ما يحصل في بلدان الثورات، فالمسألة أَعْقَد من ثنائيةٍ تَتخلَّص من إشكالات الوضع العربي، لتمنح بعض الأنظمة سلطاتٍ تفوق حجمها، ولا تتناسب مع شروطها السياسية وأحوالها العامة.
ما يحصل اليوم في العالم العربي مرتَّب في سياق تاريخي معين، تتحمَّل فيه أنظمتنا ومجتمعاتنا ونخبنا النصيب الأول والأكبر
نتساءل ماذا يفيد الحديث اليوم عن ثورات حصلت، وثورات مضادّة تحصل اليوم انتقاماً من كلّ ما حصل؟ خصوصاً ونحن نعاين أنّ أغلب الأنظمة العربية التي نَنْسُب إليها اليوم أفعال الثورات المضادّة ومبادراتها أنظمة موكول إليها القيام بأدوار معينة في الجغرافية العربية، وهي أنظمةٌ خائفة من قِوى إقليمية معينة، وتبحث لنفسها عن قوى تقوم بحمايتها، فكيف تقوم أنظمة من هذا القبيل بثورات مضادّة؟ وكيف تواجه الدول العربية اليوم جشع القِوى الإقليمية التي أصبحت لها مواقع في كثير من بلدان المشرق العربي؟
لم تستفد الثورات المتأخرة في السودان ولبنان والجزائر مما لحق الثورات العربية الأولى في تونس ومصر، والثورات التي تلتها في كلّ من اليمن وسورية وليبيا، إذ ما زالت الأوضاع في البلدان المذكورة على حالها، كما تضاعفت المخاطر والتحدّيات وتراكمت أمام الشعوب خيباتٌ مضاعفة، من أنظمتها الفاسدة ومن النخب المعارضة للاستبداد والفساد، والعاجزة، في الآن نفسه، عن بناء وحدتها ووحدة شعاراتها ومواقفها، ثم بناء المسالك القادرة على تركيب الخطوات المناسبة لأوضاعٍ أصبح من الصعب معرفة كيفيات تجاوزها، وذلك بسبب الأيدي والأصابع التي ملأت الأوطان بمليشياتٍ تابعةٍ للقوى الإقليمية والدولية، وقد استوت جميعها بجانب الأنظمة المعتلّة والخائفة، فضاق الحال بالحال، وأصبح الْمَخْرج القريب والمناسب صعب المنال... وكلّ ما ذكر يدفعنا إلى مواصلة التفكير مجدّداً في النهوض العربي، وفي الثورة العربية الشاملة.