التونسيون في انتظار أمل جديد
الأمل مثل الأوكسجين من ضرورات الحياة والبقاء، فالذي يفقده يفقد معه الرغبة في الاستمرار، ويجد نفسه بين خياري الانتحار أو انتظار أن يأتيه الموت الرحيم. لهذا، وضع البشر تواريخ من أجل تقطيع الزمن لتحقيق أهداف متعدّدة، منها الشعور بتوديع مرحلة والاستعداد نفسيا لاستقبال شوط جديد من العمر. ومع كل فاصل زمني، يتجدّد الدعاء بأن يكون غدا أفضل من أمس.
بما أن سنة 2022 كانت مخيّبة لآمال التونسيين، كما أن توقعات كثيرين منهم تلتقي في أن السنة الجديدة ستكون أصعب وأشدّ. لهذا أصبح لزاما البحث عن جوانب مضيئة من شأنها أن تسمح بتجديد الهواء داخل الفضاء التونسي، وتمنح الشعب فرصة أن يثق في نفسه، وفي قدرته على جعل مستقبله أفضل من ماضيه.
لعل أخطر ما أصاب الشعب التونسي إحساسُه بأنه في متاهة، كلما خرج من مأزق وقع في آخر أشدّ، وهو ما جعله يشكّ في الديمقراطية التي لم يعد كثيرون يعتقدون أنها النظام الأفضل لتنظيم شؤون الدولة والمجتمع، فالخيبات المتتالية ولّدت لديهم الشك في كل شيء، وأوقعتهم في حيرة وجودية. مع ذلك، لم يخرُج هذا الشعب من دائرتي التاريخ والجغرافيا. لا يزال اسم تونس يثير اهتمام معظم الشعوب. العثرات لا تدمّر عزائم الشعوب، بل أحيانا تقوّيها وتكسبها مزيدا من الحصانة، فالشعب التونسي، وإن بدا مرهَقا وراغبا حاليا في الابتعاد عن الشأن العام، لم يفقد نهائيا الإيمان بدوره في توجيه الأحداث الكبرى. وما عزوفه أخيرا عن الانتخابات سوى موقف واع منه تجاه ما يجري حوله وباسمه، مثلما تحوّل انتحار محمد بوعزيزي إلى شرارةٍ أحرقت الرئيس بن علي، وأسقطت عرشه قبل أن تفتك بعروش أخرى. العزوف موقفٌ سياسي بامتياز، وبدل أن يعبّر عنه الشعب قولا، جسّده عمليا بصمتٍ وعبر الغياب. بذلك صنع الحدث من دون ضجيج في لحظة ظنّ فيها كثيرون أنه أحجم عن الفعل.
هاجم الشعب التونسي نخبته السياسية بكل قسوة، عندما أحسّ بأنها خانت عهودها، ولم ترتق إلى مستوى طموحاته. وحصل العكس، حين انتقدت النخب شعبها وهي تراه يجلدها، ويحمّلها كوارث الدنيا والآخرة، ويعطيها ظهره ويفضّل عليها الخطاب الشعبوي بكل ما يتسم به من فقر وسطحية وغرور. وللموقفين مبرّراتهما ودوافعهما. لكن المؤكّد أن النخبة التي لا تتفهم شعبها، وتحاول التعالي عليه، ولا تؤمن بقدراته، ولا تعمل على تكوينه وتدريبه واستثمار ذكائه، ولا تُحسن إدارة العلاقة معه، من حقه أن يتمرّد عليها، وأن يهينها، وينكمش على نفسه إلى أن تراجع نفسها، وتصلح ما في ذاتها لكي تكون قادرة على كسب الثقة وقيادة الجماهير.
يعدّ إصلاح ذات البين بين النخبة والشعب بمثابة المهمة المركزية التي يجب العمل على إنجازها في السنة المقبلة. لا بد من أفكار ملهمة وجديدة تنهي حالة الشكّ المتبادل، وتجسّر العلاقة مرة أخرى بين الشعب والسياسة كفعل حضاري. لأن السياسة، مهما اختلطت بشيء من الانتهازية والمناورة والخداع، بمثابة الشرّ الذي لا مفرّ منه. وُجد السياسيون لكي يتخاصموا ويتنافسوا رغبة في الحكم وعشقا في السلطة، لكنهم، في الآن نفسه، مطالبون بتحقيق جزء من مطالب شعوبهم. والديمقراطية وسيلة أقلّ سوءا من الاستبداد لحثّ هؤلاء السياسيين على تحقيق نتائج أفضل. ومن يتحدّث عن "السياسة الطاهرة والسليمة من كل دنس" واهم أو مخادع. وتاريخ الصحابة بعد وفاة الرسول شاهد على ذلك. ورغم عيوب كثيرةٍ تعاني منها التنظيمات الحزبية، بقيت الأحزاب المحاضن الأقدر على تنشئة السياسيين وتوحيد صفوفهم وتجنيد أنصارهم، ومساعدتهم على مراكمة الخبرات وتنمية الوعي وتعزيز الثقافة السياسية الضرورية لممارسة الحكم وإدارة الشأن العام.
قبل الثورة، كان التونسيون يشاهدون المسرح السياسي عن بعد، ويتابعون الصراع بين السياسيين، من دون أن ينخرطوا فيه برغبة منهم. بعد الثورة أصبح المواطن جزءا من صناعة السياسات. يكفي أنه يختار من سيحكُم، ويزيحه عن السلطة في حالة الفشل والعبث. أصبح الشعب هو الحكم، على الأقل في لحظات الاختيار والفرز.
سيعود التونسيون إلى عالم السياسة، ويُفترض أن يكونوا هذه المرّة أكثر نضجا وحذرا وقدرة على حسن الاختيار. مجرّد فرضية لا يمكن الجزم بها. المهم أن العروض السياسية ستكون متنوّعة، وعلى المواطنين، عندما تتاح لهم الفرصة، دعم الأفضل بناء على تجاربهم السابقة، بعيدا عن بريق الشعارات وتضخّم الخطاب، فالغاية لا تبرّر الوسيلة كما زعم ميكيافيلي في كتابه "الأمير". قد يكون هذا الاختبار واردا في السنة الإدارية الجديدة، إذا ما استمرّت الأوضاع على ما هي عليه.