الثابت والمتغيّر... بمن يضحّي الإسرائيليون؟
لم يخطئ رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، عندما غرّد يلوم قيادات الاستخبارات العسكرية وجهاز الشاباك (الأمن الداخلي) في إسرائيل، محمّلا إياهما سبب الفشل، وأنهما لم يحذّراه من هجوم مفاجئ محتمل لحركة حماس، وأن تقديراتهما كانت ترى أن الحركة مرتدعة، لكن قادة المعارضة جميعا، والإعلاميين شنّوا عليه حملة شعواء، وهجوما لاذعا أجبره على حذف تغريداته، والتراجع عما كتب. لم يكن تراجع نتنياهو عن قناعةٍ منه بأنه أخطأ بلوم المسؤولين العسكريين، كما لم يكن منتقدوه، بالتأكيد، صادقين في دفاعهم عن شخصياتٍ عسكرية قدّمت هذا الأداء الفاشل.
ومن المفهوم أن أحدا لا يستطيع أن يعفي نتنياهو من المسؤولية عن الكارثة التي وقعت في اليوم الأول من معركة طوفان الأقصى، سوى نتنياهو نفسه، فهو، في النهاية، المسؤول السياسي الذي انتخبه الناس لإدارة الدولة ومؤسّساتها، بما في ذلك العسكرية منها. لكن مسؤولية العسكريين في إسرائيل عن الفشل، والإهمال لا يمكن أن تقلّ في أي حال عن مسؤولية رئيس الحكومة، إن لم تكن أكبر؛ إذ إنهم هم الذين يجمعون المعلومات، ويضعون التقديرات، ويُطلعون السياسيين لاتخاذ الإجراءات المطلوبة للتعامل مع أي تهديدٍ يمكن أن تتعرّض له الدولة، وهو ما لم يحدُث في معركة طوفان الأقصى. وهنا نطرح نحن السؤال الذي لم يطرحه الإسرائيليون، أو على الأقل المعارضة: لماذا الإصرار على إبراز أخطاء نتنياهو، مقابل هذا السكوت الكبير والمتعمّد عن أخطاء القيادات العسكرية والاستخبارية وتجاهلها؟
ترتبط الإجابة عن هذا السؤال بسببين، أولهما أن ما يحدث حاليا لا ينفصل عن الصراع السياسي الدائر منذ تشكلت حكومة نتنياهو الحالية، وبالتالي، هو حلقة من حلقات التنافس على السلطة ومحاولة التخلص من نتنياهو، والذي فشلت كل مساعي إبعاده عن المجال السياسي منذ تولى رئاسة الوزراء للمرة الأولى عام 1996، ثم في مرّات متتالية منذ عام 2009، باستثناء عام واحد تولت فيه حكومة ليبيد/ بينت، أي أننا إزاء أكثر من 17 عاما في رئاسة الوزراء، وقضايا فساد تطاوله وعائلته وهو باقٍ في السلطة. ومن هنا يركّز الجميع؛ معارضون وإعلاميون، في هذه المعركة الأكبر والأهم، على أخطاء نتنياهو بالدرجة الأولى، ثم أخطاء الوزراء من حزب الليكود، وأحزاب الائتلاف الأخرى، خصوصا عوتسماه يهوديت الذي يتزّعمه وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، والصهيونية الدينية بزعامة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
يبرهن استطلاع رأي أنّ ما قامت به المعارضة من هجوم على نتنياهو بسبب لومه القادة العسكريين كان من أجل إعادة الثقة للجيش، وهو الثابت الأهم.
وهنا أيضا لا تسأل المعارضة نفسها إن كانت تتحمّل قدرا من المسؤولية أم لا، ففي خضم الصراع السياسي بشأن التعديلات القضائية، والمظاهرات الأسبوعية الرافضة لها، والتي شهدتها دولة الاحتلال شهورا طويلة قبل 7 أكتوبر، كانت المعارضة تتعمّد نشر أخبار إعلان ضباط الجيش وجنوده من الاحتياط، خصوصا في سلاح الطيران، عدم الذهاب إلى الخدمة العسكرية الاختيارية، وكانت أحاديث قيادات هذه الأحزاب، وكتابات الإعلاميين الرافضين للتعديلات، تعكس ترحيبا بانخراط المؤسسة العسكرية، أو أفرادها في الصراع بين القوى المدنية، رغم بدهية ما كان يمثله ذلك من خطورةٍ على الجيش. ويُشار هنا إلى أن هذا الصراع السياسي نفسه هو الذي يدفع أعضاء الائتلاف الحاكم ومن بقي على تأييده لهم من الجماهير إلى الاستمرار في اتهام اليسار بالخيانة، لأنهم من ساعدوا في صرف الجيش عن دوره الرئيس. وهكذا تستمر دائرة الاتهامات من دون توقّف.
السبب الآخر، وهو الأهم؛ هو ما يمكن التعبير عنه بأنه الاختيار بين الثابت والمتغير في دولة الاحتلال؛ والثابت هنا هو مؤسّسات الدولة القائمة منذ التأسيس. ولا شك أن المؤسّسة العسكرية نتيجة دورها في الحروب المتتالية، وتثبيت مكانة الاحتلال في المنطقة، ونتيجة المقولة التي تروج لدى الإسرائيليين عبر نشرات الجيش وبياناته وصفحاته، واصفة علاقته بالشعب بأنها "شعب يبني جيشا، وجيش يبني شعبا" قد رسّخت في الأذهان أنه يمثل الثابت رقم واحد من دون منافسة، وهكذا أصبح الجيش واستخباراته أكثر المؤسّسات التي يجمع الإسرائيليون على مكانتها. ولذلك فإن الانتقاد الكبير للغاية ضد الجيش، وصولا إلى شتمه وإطلاق النكات عليه في الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى من عموم الجماهير في وسائل التواصل الاجتماعي، سرعان ما تحوّل إلى سكوت وتغاض عن أخطائه، وإن كان مؤقتا، نتيجة ما يعتقده الجميع أنه عمود الخيمة الوحيد الذي يستند عليه الإسرائيليون الذين يعيشون في بيئة إقليمية معادية منذ النشأة الأولى.
ويؤكد ذلك استطلاع الرأي الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، بعد خمسة أسابيع من الحرب، ويقيس مستوى ثقة الجمهور الإسرائيلي في مؤسّسات محدّدة، أو في مسؤولين سياسيين بعينهم، وأظهر أن 76% من المستطلعة آراؤهم يثقون في الجيش، وهي النسبة التي تضعه في مقدّمة من يثق الإسرائيليون فيهم، وجاء في المرتبة الثانية مؤسسات عسكرية أيضا؛ حيث عبر 61% عن ثقتهم في قادة المؤسّسات الدفاعية والتي ضمت رئيس الأركان، ورئيس الشاباك، ورئيس الموساد. ثم تلا ذلك بيني غانتس، وبعده المحكمة العليا. وتذيل القائمة رئيس الوزراء، ثم الوزراء، وأخيرا أعضاء الكنيست من الائتلاف الحاكم. ويبرهن هذا الاستطلاع أن ما قامت به المعارضة من هجوم على نتنياهو بسبب لومه القادة العسكريين كان من أجل إعادة الثقة للجيش، وهو الثابت الأهم هناك.
يركّز السياسيون نقدهم على نتنياهو أو وزرائه، الفاشلين بالتأكيد، ويتجاهلون عمداً خطايا قيادات عسكرية، لا تُحسن إلا قتل الأبرياء
لا يعني ذلك أن الجيش خارج نطاق النقد بالتأكيد، لكنه نقدٌ محدود للغاية في الطرح والتأثير، وأمثلته تعد على أصابع اليد الواحدة؛ من ذلك مثلا الكتاب الذي صدر في عام 2003 بعنوان "الطبق والفضّة" الذي ألفه المتخصص في الشؤون العسكرية، عوفير شيلح، وهو عسكري سابق، وباحث كبير في معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل حاليا. يركّز الكتاب بالأساس على الجيش الإسرائيلي، وكيف أن عقيدته التي أقنع بها الجميع هناك قامت على عبارة "نحن وحدنا في مواجهة العالم، وروح معسكرات أوشفيتز فوق كل شيء". ومن هذه العبارة، التي أصبحت سيفا مسلطا فوق رقاب الجميع، رسّخ الجيش نفسه ليكون المؤسّسة الأكثر هيمنة في إسرائيل، والتي لا يمكن لأي أحد التقليل من مكانتها. كانت ملاحظات شيلح عن الجيش سلبية ومنتقدة، كما كانت لديه الجرأة حينها أن يطرح قضايا لطالما اعتبرها الجميع عشرات السنين مسلّمات غير قابلة للنقاش، كالتي ترى أن الجيش قائم على الكفاءة والاحترافية العسكرية. وتأكيده على ذلك من خلال أمثلة تظهر أن تلك المؤسّسة لم تعد تتحرك وفق تخطيط عسكري، بل تعمل وفق منطق المغامرة، كما أنها تخرُج عن القانون أيضا، وكانت الخلاصة التي توصل إليها في كتابه، في ذلك الوقت، أن الجيش لم يعد جيش الشعب.
جاءت عملية طوفان الأقصى لتثبت أن كلمات شيلح لم تجد آذانا مصغية، ولتقول إن مؤلف الكتاب ربما يرجع بعد الحرب إلى ما كتبه منذ عقدين عن الجيش، لكنه في تحليله للعملية البرية التي تقوم بها القوات الإسرائيلية حاليا في غزّة يلتزم بما يلتزم به الجميع، من أجل ترميم صورة الجيش المحطّم. وهكذا يفعل السياسيون، حين يركّزون نقدهم على نتنياهو أو وزرائه، الفاشلين بالتأكيد، ويتجاهلون عمدا خطايا قيادات عسكرية، لا تُحسن إلا قتل الأبرياء من الأطفال والنساء، ولا يدري أحد كيف وصلت إلى هذه الدرجات العسكرية، وتولّي تلك المناصب العليا، وهي بهذه الدرجة المتدنيّة من الكفاءة.