الثورة الجزائرية من منبر المركز العربي
تعود الثورة الجزائرية عربيا من بوابة البحث العلمي والتنقيب الأكاديمي، حيث فتح المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات منابره لجامعيين ومثقفين جزائريين وعرب، وهذه من مآثره الجليلة، خصّص مؤتمره السنوي للدراسات التاريخية (28- 29 مايو/ أيار 2022) لإعادة قراءة مسار الثورة، ومكانتها، وما تراكم من سردياتٍ عنها، كما جاء في عنوان المؤتمر الذي انتظم في الدوحة، وهذه أيضا من محاسن المركز ومحامده التي سبق فيها مراكز بحث عديدة على امتداد جغرافيا الوطن العرب، عدا الجزائر التي يعدّ الأمر من خاصة اهتماماتها.
تناولت أوراق المؤتمر حقولا مختلفة من الاهتمام التاريخي بالثورة الجزائرية، بداية من مقدّماتها، وعوامل قيامها، ما اعترض طريقها من عقبات وعثرات، ما واجهها من تحدّيات ونزاعات، وما حققته من بطولاتٍ وانتصارات، كُللت باستقلال الجزائر عن فرنسا في الخامس من يوليو/ تموز 1962 بعد 132 سنة من استعمار استيطاني غاشم. ولم تنته علاقة الجزائر بفرنسا عند هذا التاريخ، بل انزاحت العلاقة عبر الزمن الذي يلي، لتطرح أسئلة العلاقات بين دولتي الاستعمار والاستقلال، وهل أن الثورة حققت تحرير الوطن، أم أنها اكتفت باستقلاله عن مستعمره. تتداخل في المفهومين تفاصيل التاريخ المشترك والعلاقات الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، واللغة الفرنسية.
لم تحمل الثورة الجزائرية أي صبغةٍ أيديولوجية، بل كانت نتيجة تراكماتٍ فجرتها سنوات مديدة من الإحباطات، كان سببها النضال السياسي والحزبي العقيمان، والوعود الفرنسية الكاذبة. وكانت جدلية "المثقف والعنف الثوري" التحرّري للأمة ترفا فكريا لم يُتح لقادة الثورة الخوض فيه آنذاك، بالرغم من طُغيان المد التحرري للبلدان الآفروآسيوية في تلك المرحلة من انعتاق الشعوب المُستعمَرة. ولا يعني هذا أن الثورة جاءت من العدم الفكري، أو أن المثقف انزياحا لوظيفته الإبستمولوجية غير معني بالعنف الثوري، بل كانت للثورة روافد طلابية وشبابية مثقفة مدّتها بالكوادر، وجعلتها تتحوّل من العفوية الثورية في البداية إلى التنظيم المحكم للثورة فيما بعد.
كانت للثورة روافد طلابية وشبابية مثقفة مدّتها بالكوادر، وجعلتها تتحوّل من العفوية الثورية في البداية إلى التنظيم المحكم للثورة فيما بعد
في مداخلته، يعتبر الأستاذ في قسم الدراسات الإنسانية في جامعة ولاية فيتشبرغ في الولايات المتحدة، ياسر جزائرلي، أن الثورة الجزائرية أدت إلى ظهور مفهوم "صراع الحضارات" نتيجة عمل فرنسا على تبرير حربها بأنها ليست مواجهة بين أمتين، (فرنسية – جزائرية)، بل بين حضارتين، الغربية والإسلامية، مضيفا أن الفكرة لم تلق ترحيبا في الولايات المتحدة آنذاك بسبب الحرب الباردة التي شكّلت يومها صداما بين إيديولوجيتين (الشيوعية والليبرالية). ولكن سيعاد طرح المبدأ بعد انتهاء تلك الحرب، ليصبح مفهوما أساسيا في العلاقات الدولية. وفي إحداثيات اختلاف المفاهيم يقف كل من فرانس فانون ومالك بن نبي على طرفي نقيض. ينتصر فانون إلى تأصيل فلسفة التحرّر والكفاح، التي ألهمت فئة المسحوقين والمغصوبين وحفّزتهم على الثورة. أما بن نبي فبقوله إن "الثورة ليست كإحدى الحروب تدور رحاها مع العدد والعتاد، بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة" ينتصر لمفهوم الهوية الإسلامية للثورة في الجزائر، وأن "الشاحن الأكبر لها هو الدين، الذي هو من أبرز مقوّمات الهوية الوطنية".
تتيح المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الثورة الجزائرية (60 سنة) فرصةً حقيقيةً لكتابة التاريخ الصادق للثورة. وبعيدا عن الإفراط في عاطفة التمجيد، أو الإنكار الاستعماري، تطرح أمام الباحث الآن فرصة قراءة متأنية في تفاصيل الثورة، ببطولاتها وأمجادها، عثراتها وأخطائها، وعلى الكاتب في حقل التأريخ معرفة أنه أمام منعرج تاريخي حاسم في مصير الشعوب العربية، الجزائري خصوصا، وليس أمام مجرّد حرب محدودة في الزمن والتأثير.
ما يسمّيه أستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة الكويت، الزواوي بغورة، "عملية الاختزال" التي يجريها الخطاب الرسمي للثورة الجزائرية في بعدها العسكري والحربي فقط، من خلال كتابته تاريخ المعارك، وقد شرع فيها منذ أعوام، يغمط من خلالها الأبعاد الأخرى للثورة، فالثورة لم تكن معارك فقط، بل تضافرت عوامل عديدة لإنجاحها، سواء من جهة التجربة السياسية التي سبقتها، أو أبعادها الاجتماعية وعناصرها البنيوية واللوجستية، أو التفاعلات الخارجية التي رافقتها من مساندة الشعوب العربية لها، إضافة إلى المساعدات المادية والسياسية التي قدّمتها لها الشعوب في قارتي إفريقيا وآسيا على وجه الخصوص، ناهيك على مواقف الإسناد والدعم التي قدمتها دول وشعوب أخرى.
الثورة نتيجة تراكمات فجرتها سنوات من الإحباطات، سببها النضال السياسي والحزبي العقيمان، والوعود الفرنسية الكاذبة
وتطرح إشكالية التأريخ للثورة الجزائرية نفسها على الجزائريين أنفسهم، فتعاملهم مع الذاكرة ما زال محدودا. والكتابات بشأن الثورة لم تكن بتلك الغزارة المأمولة، وإنْ كانت مذكرات بعض الثوار التي نُشرت في الأعوام الأخيرة قد حرّكت سواكن بركة التأريخ الجزائرية، إلا أن غياب مذكّرات قادة الثورة (حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، أحمد بن بلة، هواري بومدين وغيرهم..) كان له تأثيره السلبي البالغ على جمع المعلومات من مصادرها الفاعلة والموثوقة. ولم تشذّ الإنتاجات الدرامية على قاعدة الغياب، فاقتصرت إنتاجاتها على السنوات الأولى للاستقلال، وتراجعت الإنتاجات السينمائية في العقود الثلاثة الأخيرة إلى حدود العدم، فلم يعد من اهتمامات وزارة الثقافة أو المؤسسة الرسمية انتاج فيلم سينمائي يتناول موضوع الثورة منذ زمن طويل، ناهيك عن الأفلام الوثائقية إلا ما ندر.
في الطرف الفرنسي، يغزر التوثيق التاريخي، ويتنوع بشأن حرب الجزائر كما يسمّيها، فبين الأكاديمي، والجمعوي، والمذكرات، والمجلات المتخصّصة والمحاضرات والنقاشات، والندوات الأكاديمية والتلفزيونية، والأفلام والسرد الأدبي تزدحم الانتاجات بين نظرة تمجيد ماضي "الجزائر الفرنسية"، وهي الغالبة، وتبييض أفعال الاستعمار وقضايا التعذيب والتنكيل، وبين أطروحات الندم وقول الحقائق بشأن الأفعال المشينة للاستعمار، وهي انتاجات قليلة، إذا ما قارناها بالأولى.
تدعو نظرة فاحصة لتاريخ الثورة الجزائرية، إضافة إلى الاهتمام بالوثائق الفرنسية في هذه المجال، (لم تفرج السلطات الفرنسية عن عدد كبير منها)، الاهتمام أيضا بالوثائق الأخرى الخاصة بالثورة، كالوثائق الأميركية التي كان يكتبها القناصل الأميركيون في كل من الجزائر والمغرب وتونس، أو الوثائق العربية في مصر وتونس والمغرب خصوصا، والاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وغيرها من البلدان التي كانت تهتم بالثورة الجزائرية، وهو ما من شأنه أن يقدّم خدمة جليلة للتاريخ، فيما يخصّ تدويل القضية الجزائرية، وإدخالها إلى منابر الأمم المتحدة.