الثورة المصرية في أوراق حزب العمال البريطاني
نشرت قناة الجزيرة الإنكليزية، في أواخر الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) نتائج تحقيق استقصائي أجرته في تسريبات حصلت عليها من داخل حزب العمال البريطاني. كشفت التسريبات، وهي الأضخم في تاريخ الحزب والسياسة البريطانية وفقا للقناة، عن انقلاب قصر داخل حزب العمال البريطاني على زعيمه السابق، جيريمي كوربين، والذي تولى رئاسة الحزب من عام 2015 وحتى عام 2020، بسبب مواقفه اليسارية المغايرة لمواقف القوى النافذة داخل الحزب بشكل خاص والسياسة البريطانية بشكل عام وسط صمتٍ وربما دعم بعض وسائل الإعلام البريطانية.
تبنّى كوربين، عضو مجلس العموم البريطاني منذ عام 1983، مواقف يسارية واضحة تعاطف فيها بشكل غير مسبوق في السياسة البريطانية مع حركات السلام والديمقراطية وحقوق الشعب الفلسطيني، كما تبنّى مواقف قوية فيما يتعلق بالمساواة الاقتصادية داخل بريطانيا، حيث دعا إلى تأميم خدمات كالسكك الحديدية والمياه والكهرباء وإعفاء طلاب الجامعات من الديون وجعل التعليم العالي مجانيا في بريطانيا.
مثّل صعود كوربين إلى قيادة حزب العمال ثورة جماهيرية ساعدت الحزب على مضاعفة عدد أعضائه خلال فترة وجيزة، حيث وجد الشباب والأقليات وبعض النشطاء في أفكار كوربين عامل جذبٍ كبيرا، وهو ما ساهم في توسيع مقاعده بالبرلمان في انتخابات عام 2017، من دون أن يتمكّن من تشكيل الحكومة. ولكن الحزب مني بخسارة كبيرة في انتخابات عام 2020، والتي عقدت في أجواء سيطر عليها انقسام البريطانيين بخصوص تطبيق نتائج استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي. ويرى بعضهم أن موقف كوربين الملتبس من قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي أدّى إلى خسارة حزبه الانتخابات أمام حزب المحافظين، الذي تبنّى زعيمه في ذلك الحين، بوريس جونسون، موقفا حازما يدعو إلى الخروج من الاتحاد بشكل سريع وحاسم، تنفيذا لنتائج الاستفتاء، كما يرى آخرون أن انقسام حزب العمال نفسه ساعد في خسارته الكبيرة، وأن كوربين تعرّض لتمرّد داخلي ولكثير من الشائعات والخلافات الحزبية التي أدّت إلى تشويه صورته لدى الرأي العام البريطاني.
كوربين القادم من خارج النخب المسيطرة على سياسات حزب العمال المعارض تعرّض لانقلاب أبيض من داخل الحزب نفسه
وهنا تأتي أهمية "أوراق حزب العمال البريطاني"، وهو عنوان تحقيق "الجزيرة"، المنشور في ثلاثة أجزاء، حيث كشف، بناء على وثائق سرّبت من داخل الحزب وحصلت عليها القناة، أن كوربين تعرّض لتمرّد أو انقلاب من كبار موظفي الحزب وبعض نوابه في البرلمان، إلى درجة فصل بعض أعضاء الحزب الموالين له، ونشر ادّعاءاتٍ كاذبة بانتشار العداء للسامية والأقليات في أوساط حزب العمال البريطاني من مناصرين لكوربين، وكذلك فصل نشطاء مسلمين ونشطاء يهود معارضين لإسرائيل، وممارسة العنصرية والإسلاموفوبيا ضد بعض أنصار كوربين وأعضاء الحزب المنتمين لجناحه اليساري.
وتفيد تحقيقات "الجزيرة" بأن الممارسات السابقة تمت بدعم من لوبي إسرائيل وشخصيات داعمة له ومتوغلة داخل أروقة الحزب، شاركت في الحملة ضد كوربين، وكأنهم نشطاء عاديون داخل الحزب، ووقع الإعلام البريطاني نفسه، بما في ذلك مؤسّسو "بي بي سي" الممولة من دافعي الضرائب، في خطأ المشاركة في الحملات الإعلامية ضد كوربين، من دون التدقيق فيها، ومن دون سماع وجهة نظر كوربين وأنصاره، وتفنيد ادّعاءات خصومه.
خلاصة تحقيق "الجزيرة" أن كوربين القادم من خارج النخب المسيطرة على سياسات حزب العمال المعارض تعرّض لانقلاب أبيض من داخل الحزب نفسه، قاده موظفو الحزب غير المنتخبين وعدد من أعضائه في البرلمان، لرفضهم مواقف كوربين المغايرة لما اعتادوا عليه، وهو انقلابٌ تم بدعم إعلامي وسياسي أوسع، لشعور النخب البريطانية المسيطرة بالأمر نفسه، وهو أن مواقف كوربين لا تعبّر عن المؤسسات وشبكات المصالح الحاكمة.
اختلفت المطالب السابقة بشكل كامل تقريبا مع احتكار الدول العميقة المصرية للثروة والسلطة
ويذكّرنا ما حدث مع كوربين بما حدث لانتفاضة المصريين في 25 يناير، والانتفاضات العربية في 2011 بشكل عام، فهذه الانتفاضات كانت جماهيريةً بالأساس، قادتها قوى معارضة غير مهيمنة على مقاليد الثروة والسلطة، هذه القوى ومن ورائها الجماهير، تبنّت أجنداتٍ مغايرة بشدة لأجندات النخب المسيطرة على مختلف المستويات. رفعت الجماهير وقوى المعارضة شعاراتٍ تتعلق بالمساواة الاقتصادية وإعادة توزيع الثروة والسلطة، ورفض احتكار الحاكم وأسرته وأعوانه والمؤسسات الأمنية للثروة والسلطة، كما طالبت أيضا بالديمقراطية وحكم المؤسّسات والدساتير والانتخابات، طالبت كذلك بتعليم أفضل وبالاهتمام بالصحة والمواصلات وسلامة المواطن وكرامته، وإعلام قيم الكرامة الفردية والوطنية. وعلى المستوى الخارجي، دعمت الجماهير القضية الفلسطينية ورفضت التطبيع، ونادت بسياسات خارجية أكثر استقلالية وتوازنا.
اختلفت المطالب السابقة بشكل كامل تقريبا مع احتكار الدول العميقة المصرية (المؤسّسات الأمنية والرئيس القادم منها والنخب الاقتصادية الدائرة في فلكها) للثروة والسلطة. لذا بادر بعض قادة النظام السياسيين والأمنيين بالهرب خارج البلاد، وجرى إيداع بعضهم السجون في تمثيلاتٍ مصطنعة، وادّعى الجيش (العمود الفقري للدولة العميقة وأهم مؤسساتها على الإطلاق) دعم الثورة ومطالب الجماهير، وتم السماح بعقد انتخابات برلمانية ورئاسية وصعود رئيس منتخبٍ تحت ضغط الجماهير، قبل أن يحدث الانقلاب على الانتفاضة الجماهيرية وسحق كل من شارك فيها، وفي مقدمتهم الرئيس المنتخب الذي مات بالحبس الانفرادي والإهمال الطبي، وقُتل آلافٌ وسجن عشرات الآلاف من أهم النشطاء والمعارضين وأبرزهم، في ظل دعم سياسي ومالي وإعلامي إقليمي وصمت دولي على الانتهاكات الجسيمة. .. لتعود مصر إلى السياسات التي تبنّتها النخب الحاكمة خلال العقود الأخيرة، ورعتها الدول البارزة في الإقليم وإسرائيل، وفي مقدمة تلك السياسات الحكم المطلق وغياب الديمقراطية وقمع المواطن ورأسمالية الدولة التي تقوم بإثراء النخب وإفقار المواطنين وتوثيق العلاقات بإسرائيل والتخلي عن دور مصر الخارجي القيادي أو المستقل.
قد تسمح الديمقراطية البريطانية بصعود قوى اليسار الجديد قريبا، ولكنها قد لا تسمح بتغيير ديمقراطي قريب في العالم العربي
وبناء عليه، يذكّرنا وثائقي "الجزيرة" بمصير الحركات والقيادات الجديدة القادمة من خارج النخب المسيطرة، وأن الفشل والانقلابات قد يكونان المصير المنطقي لتلك القوى في أعرق الديمقراطيات نفسها، وذلك بسبب تهديد تلك القوى لمصالح النخب وشبكات القوى النافذة في الداخل والخارج. بمعني آخر، كوربين كمحمد مرسي ونشطاء ثورة يناير لم ينتموا للنخب المسيطرة، وخضعوا لانقلابات داخلية مدعومة خارجيا بسبب أفكارهم وطموحاتهم المختلفة. وعلى الرغم من سلمية مساعيهم ونبل كثير من مطالبهم، إلا أن القوى المسيطرة رأت فيهم تهديدا كبيرا، وسعت إلى التخلص منهم بأساليب غير شرعية وسط صمت وسائل الإعلام، وربما تأييد بعضها وسط تأييد نخب خارجية.
الفارق هنا أن الديمقراطية البريطانية حمت كوربين، فلن يتم اعتقاله أو حتى طرده من البرلمان البريطاني، ولن يُغلَق مكتب قناة الجزيرة في لندن أو وقفها عن العمل من بريطانيا بعد نشرها الوثائقي الذي شاهده مئات الآلاف. وربما يأتي بعد سنوات جيل آخر تأثر بأفكار كوربين، وتعرّف إلى تجربته، وبات أكثر انخراطا في السياسة البريطانية ومؤسّساتها وأكثر قدرة على مقاومة ضغوط النخب المسيطرة واستطاع التحكم في مقاليد الأمور. أما في مصر والعالم العربي، فالقمع أشد، والقانون غائب، والحكم بالأساس في يد أفراد والمؤسسات الأمنية التابعة لهم، ما ينذر بانفجار الشعوب والبلدان على فترات، وتراجع قدرات الدول بشكل مستمر، ولو تدريجيا، بسبب غياب التنمية الحقيقية القائمة على بناء المؤسسات والسياسات الواضحة ونشر التعليم والثقافة وحكم القانون.
في الخلاصة، من توقّعوا انتصار انتفاضات الربيع العربي، كمن توقعوا تولّي كوربين رئاسة وزراء بريطانيا، لم يكونوا واقعيين. الهزيمة والفشل كانا الخيار الأكثر منطقيةَ لحركاتٍ وقياداتٍ تأتي من خارج النخب المسيطرة، في ظروف صعبة وبدون دعم كافٍ، وفي ظل اختلال واضح لموازين القوى. وقد تسمح الديمقراطية البريطانية بصعود قوى اليسار الجديد قريبا، ولكنها قد لا تسمح بتغيير ديمقراطي قريب في العالم العربي، لأسبابٍ واضحةٍ يطول شرحها.