الجريمة حتى إشعار آخر في لبنان
كانت جريمة "الثلاجات" في القرنة السوداء، جبل المكمل، شمال لبنان، أعلى قمّة في بلاد الشام (ارتفاع 3093 مترا عن سطح البحر)، لتشعل حربا أهلية في لبنان بين بشري والضنية على خلفية نزاعات مائية وجغرافية وعقارية، مع سقوط دراماتيكي لشابّين من آل طوق، تسببّ بحالات قلق وتوتر شديدين، ومخاوف من خروج الأمور عن السيطرة في لبنان. يسود تطلع مخيف إلى ما وراء الجريمة في ظروف غير مسبوقة من عجز السلطات وانحلال المؤسسات والإهمال في متابعة قضايا الناس. جريمة أخرى كانت سجلت بين شباب من "الفنيدق "و"عكار العتيقة"، في ظروف مشابهة/ ملتبسة. أوضاع بلغت فيها مستويات الانفجار الاجتماعي في لبنان الذروة على أطراف العشوائيات و"البرك المائية الدموية".
يستفيق اللبنانيون يوميا على أخبار جريمة مروعّة، من أقصى البلاد الى أقصاها، ما يعزّزالقلق من تفشّى ظاهرة غير معزولة عن سببيّة ارتفاع مؤشر الجريمة في الدول العربية. وفقا لتقرير مسح سكان العالم 2023 تحتل سورية صدارة المؤشّرالعربي 68 جريمة لكل مائة ألف شخص، والمرتبة العاشرة عالميا بعد فنزويلا ، البرازيل، جنوب أفريقيا، أفغانستان، هندوراس .. ، ولبنان في المرتبة الخامسة مع مصر (46%)، بعد ليبيا (61% )، الصومال (56%) الجزائر (53%)، المغرب (47%).
يفتقد اللبنانيون الشعور بالأمان، ويدركون حجم التأثير الحقيقي للأزمة المعيشية على سلوكياتهم. موتان اثنان، سياسي واجتماعي، في تجاوز المألوف في القيم التقليدية. ترتفع أعداد ضحايا القتل، حيث السيادة للجريمة والمعجم المستخدم، أن فعالية القانون على الأرض ضعيفة جدا، جزءٌ من شريط مضاعف بالأسى لغياب الدولة المركزية.
أوضاع بلغت فيها مستويات الانفجار الاجتماعي في لبنان الذروة على أطراف العشوائيات و"البرك المائية الدموية"
تنطرح أسئلة أكثر إلحاحا في العلوم الاجتماعية عما إذا كانت الحرب الأهلية انتهت فعليا في لبنان، وإلا فما الذي يجعل روايات القتل مستمرّة، فتطاول المناطق وفي قصص تجتمع فيها تفاصيل أنثروبولوجية صغيرة على "النيسكافيه"، "المرور"، "سقي المياه والبحث عن "الكلأ"، الطلاق، جرائم الاغتصاب، وقضايا أخرى ثأرية. تبدو الجرائم المرتكبة ذات تأثير شديد، وتتسبّب بارتيابات مقارنة بنظريات التحليل النفسي الفرويدي مع القيود المفروضة على تحقيقاتٍ لا تصل إلى نتائج، وتؤكّد جنونا مكبوتا عند اللبنانيين. ولكن ليس إلى حد ارتكاب أعمال بربرية تحميها روابط عائلية وأحزاب وأعراف. ما يثير الدهشة أن غالبية التحقيقات الجارية تنتهي ضحية أخرى، تسقط معها الحقيقة بتوازن بين القاتل والمقتول، وسرعان ما تختفي معها الآثار بطرائق معالجة عشائرية، أو خدمات على مستوى مناطقها، أو تتناسل ثأريا على نحو مخيف يزعزع الاستقرار العام. في حين أن مهمة المحاكم الأولى ضمان قمع مثل هذه الجرائم المتمادية. تبدي الجماعات اللبنانية علامات قلق إزاء ظاهرة أقوى أثرا من النزاعات السياسية، أو جزء منها (جريمة الثلاجات)، لاسيما حين تصيب بقايا العيش المشترك بين الناس. المقاربات الخاطئة تفترض أن "الأفعال الشريرة " لا يرتكبها إلا "أناس أشرار"، فيفاجأ الجميع بقصص متفلتة، كأنه الشر الكامن اجتماعيا. ومن جريمة على "النيسكافيه" في بلدة قب إلياس (2017) التي أدّت إلى مقتل شابين بقاعيين (لم تنته فصولا إلا بمصالحة متأخرة منذ أيام بين عائلات المنطقة)، إلى مأساة بلدة مشغرة (خمسة قتلى على وقع خلاف على تجارة مواش وتقاسم حقوق السقي 2022) وذيولها مستمرّة. تكاد تفرغ البلدة (جارة القمر) من سكانها.
في جزّين أطلق رجل أمن النار من سلاح أميري على زوجته وحماته فأرداهما على الفور. ثم قتل نفسه في مقرّ سكنه في بلدة مجاورة لمديتنة.
في بلدة بسابا الشوفية أقدم رئيس مخفر سابق على قتل زوجته في وضح النهار، نتيجة خلافات بينهما بعد حصول المجني عليها على الطلاق. تبيّن أن الجاني أقدم على طعن زوجته عدة طعنات، وبعد فرارها منه طاردها بالسيارة، وأقدم على صدمها مرارا للتأكّد من وفاتها أمام أعين أطفالها والسكان.
جريمة أخرى هزّت لبنان أخيرا بمقتل رجل وامرأة مسنين مع حفيدتيهما في بلدة كترمايا، ما أثار بشأنها ردود فعل كثيرة، وكادت أن تؤدّي إلى أزمة ديبلوماسية بين لبنان ومصر، لأن القاتل مصري الجنسية. فيما أعادت حادثة "زينب" في صحراء الشويفات مشاهد كثيرة من جرائم قتل النساء. ما يحصل "نظام جريمة"، أي امرأة تخرج عما تسمّى طاعة زوجها، من الممكن أن تكون معرضة في أي لحظة لخسارة حياتها. (حسونة وحسن إخوان وشرف واحد. حسن غسل عاره وعار حسوّنة، والموضوع انتهى)، بهذه العبارات برّرت عائلة زينب زعيتر الجريمة في مقطع انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي. اشارة إلى أن "ما كانت تسمّى بجريمة الشرف ألغيت من القوانين اللبنانية، ولا يعترف بعذر مخفّف لها. رصدت منظمة "كفى" حوالي 18 جريمة نتيجة عنف الأزواج العام 2022. وهذه نتيجة طبيعية لثقافة الإفلات من العقاب.
المرأة في غالبية الجرائم شخصٌ يُعاقب، أخطأت أم لم تخطئ
كلام في الموت لجريمة مطبّقة على يوميات اللبنانيين، تتفاعل مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية (180 جريمة عام 2021، 177 جريمة العام 2022 ، 49 جريمة في الثلث الأول من 2023 ). ظروف خاصة محدّدة يجد فيها المرتكبون أنفسهم أدوات بمستويات معينة من الهبوط الى مراتب دنيا في محاكاة اجتماعية، موسومة بظروف مستحيلة، غير مسؤولين عن أفعالهم، لأنهم مجرّد منفذين لجريمة أكبر ارتكبت بحق لبنان. يتأكّد كل يوم من وجود عناصر مكونّة لهذه الجريمة المنتشرة في دولةٍ تفتقر إلى الإحساس العام بالمواد الحقوقية والقانونية. ثمّ القضاء هو الشاهد الخطأ على مسرح جريمة يقوم بها فاعلون، وسرعان ما يختفون خلف حائط سميكٍ لا يُرى. وغالبا ما تنتهي التحقيقات، سيما عندما تكون الضحية امرأة، وأن قتلها لا يخرج من دائرة الواجبات الأخلاقية، فالأب هو الذي يملك حق التخلي عن الأطفال والطلاق. إطار مفرط في فوضى المؤسّسات وطابعها المختلط .
في لبنان، تقتل بعض النساء مثل الصراصير. المرأة في غالبية الجرائم شخصٌ يُعاقب، أخطأت أم لم تخطئ. يجد القتلة مبرّراتهم بعوامل انفعالية مفاجئة، ويتذرّعون بتناولهم أدوية مهدئة للأعصاب لتبريرعملياتهم (ّأظهر مسحٌ صحّي أن 85% من اللبنانيين في نزعة استهلاكية لأدوية الأعصاب في السنوات الأخيرة). في الحقيقة، هم أشخاص أصحّاء ليسوا نتاج اضطرابات عقلية سابقة على تصوّراتهم. كل ما في الأمر أن دراسة الحقوق والقانون تعلم صاحبها المشرع القضائي الإجرام نفسه، حين يخرج عن النص القانوني إلى اجتهادات، وصناعة مبرّرات تتمرّد على النصوص. أشكال الجريمة تطرُق أبواب اللبنانيين بلا اسئذان. كل هذا الموت المجاني الذي لا مبرّر له، وأعمال انتقامية تنشر الفوضى، وتجعل حياة الآخرين معرّضة للخطر مع سلطة فقدت الاتصال بأبنائها.