الجزائر .. المؤسسة العسكرية تقود قاطرة التجديد
كان أمراً مفاجئاً، وبغير تمهيد، أن تعمد قواتٌ لجبهة بوليساريو إلى إغلاق الممر بين الحدود المغربية والموريتانية في معبر كركرات التي تداولت وسائل الإعلام اسمها في الأيام العشرة الأخيرة. ولم تكتف الجبهة بذلك، بل أعلنت أن اتفاق وقف إطلاق النار مع المغرب، الموقع في عام 1991، قد أصبح لاغياً، وهو ما يعادل إعلان حرب أو التمهيد لإعلانها، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث، فقد أعادت القوات المغربية فتح المعبر، وقامت بتحصينه، وعادت حركة مرور الأفراد وشاحنات البضائع إلى حالها، حيث تعتمد أسواق موريتانيا، بدرجة كبيرة، على الإمدادات الغذائية المغربية، وخصوصاً من الخضار والفواكه. وبينما بدت الجزائر على غير تماسٍّ مباشر بهذا الحدث، إلا أن تحرّكات "بوليساريو" تمتعت بغطاء إعلامي جزائري، وما هو أكثر منه، وذلك بالحديث عن قدرات الجيش الجزائري، وعن صواريخ إسكندر الروسية. والجيوش محل تقدير واعتزاز، سواء الجيش الجزائري أم المغربي أم غيرهما، غير أن توقيت هذا الاستعراض المتزامن مع التطورات على معبر كركرات أثار التساؤل. ومن حسن الطالع والتدبير أن الأزمة المفتعلة في المنطقة الحدودية وفي عمق الصحراء قد طويت تقريباً، ولم تخلّف ذيولاً ذات أثر ظاهر.
تحرّكات "بوليساريو" تمتعت بغطاء إعلامي جزائري، وما هو أكثر منه، بالحديث عن قدرات الجيش الجزائري، وعن صواريخ إسكندر الروسية
ثارت هذه الأزمة على هامش تطوراتٍ داخلية تشهدها الجزائر، وحيث يجرى التنازع بين مؤسسات الحكم والحراك الشعبي على من يصوغ معالم الجزائر الجديدة ويحدّدها، جزائر ما بعد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. ومن الجلي أن المؤسسات الرسمية نجحت في وضع خريطة طريقٍ تجمع بين مكافحة فساد رموز العهد السابق وانتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية وتعديل الدستور والاستعداد لتعديل قانوني الأحزاب والانتخاب، وصولا إلى إجراء انتخابات نيابية جديدة في أقرب موعد ممكن، وإنْ لم يتم بعد تحديد هذا الموعد. وقد أخذت المؤسسات على عاتقها القيام بالتغيير الذي هتفت به حناجر ما لا يُحصى من الجزائريين. بينما يدعو الحراك الشعبي، وما انفك، إلى تغيير جذري شامل. وهو ما ترى فيه المؤسسات، وتتصدّرها المؤسسة العسكرية، بأنه وصفة للوقوع في الفراغ والفوضى وإشاعة بيئةٍ تتسلّل فيها قوى دخيلة للعبث بالمصير الوطني. وقد رسم ملامح هذه الخريطة، وباشر بترجمتها على أرض الواقع، رئيس الأركان السابق، قايد صالح، والذي أشرف قبل أن توافيه المنية على إجراء الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز عبد المجيد تبون. وقد لعب الرجل الراحل دوراً أبوياً في التعاطي مع مطالب الحراك الشعبي، وخصوصاً في مكافحة الفساد، وتعديل الدستور، وانتخاب منظومة جديدة للحكم والتشريع. وقد جرت انتخابات الرئاسة يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ولم يشُبْها تزوير، ولكن من جملة 33 مترشحاً تم استبعاد نحو 28، بعضهم كانوا غير جديين، أو لم يستوفوا الشروط، وبعضهم الآخر تم استبعاده لعدم الرضى السياسي عنه. ومن الملاحظ أن شخص الرئيس تبون يحوز على الرضى من القوى السياسية والاجتماعية، لكن ظروف الانتخاب كانت أقل من المأمول، وإن اعتبرت انتخاباتٍ حقيقيةً، مقارنة بما كان يجرى في العهد السابق من قولبة النتائج مسبقاً، ومعها نسب المشاركة والاقتراع.
تثور مطالباتٌ بوضع قانون انتخاب جديد، بمشاركة اجتماعية واسعة، وأن لا يقتصر الأمر على أعضاء مجلس النواب الحالي الذي يجسد أبرز المظاهر المستمرة للعهد السابق
وكانت الخطوة الثانية ذات الأهمية هي في تعديل الدستور الذي سبق أن عدّله بوتفليقة مرات عديدة، مستفيداً من الأغلبية البرلمانية الأوتوماتيكية، والتنافس بين حزب جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي على الولاء. وقد نظرت في التعديلات لجنة قانونية ضمّت 16 خبيراً، وجرى عرض التعديلات على مجلس الشعب، ونالت الموافقة، ثم تمت إحالة التعديلات على استفتاء شعبي.
تقيد التعديلات الفترة المتاحة لرئيس البلاد بولايتين منفصلتين أو متصلتين، وتدعو إلى إنشاء محكمة دستورية للبت في المنازعات بين السلطات، وتمنح حرية للإعلام والأحزاب، بحيث لا يقع حل حزب أو منبر إعلامي إلا بحكم قضائي، كما أنها تفتح الباب أمام تشكيل حكومات برلمانية، حيث يتعيّن تكليف الحزب المتمتع بالأغلبية البرلمانية بتشكيل حكومة ما بعد الانتخابات. وتعتبر التعديلات الأمازيغية لغة وطنية رسمية إلى جانب اللغة العربية. وفي جملتها، تعتبر التعديلات متقدّمة عمّا كانت عليه مواد الدستور من قبل، إلا أن المعترضين أخذوا على التعديلات أنها لم تخضع لنقاش مجتمعي واسع، وأنها نالت موافقة مجلس النواب الذي انتخب في العهد السابق. بينما تقول اللجنة إنها تلقت مئات الملاحظات من الأحزاب والمجتمع المدني لدى إعداد التعديلات، وإنها أخذت بكثير منها. وقد جاءت ظروف انتشار وباء كوفيد 19، وغياب الرئيس تبون للعلاج في الخارج من إصابته بالوباء نفسه، إضافة إلى أن العكوف على قراءة مواد الدستور ليس جذّاباً لكثيرين، ما أدى إلى إضعاف الاهتمام بالاستفتاء والمشاركة فيه، حيث بلغت نسبة المشاركة أقل من 24% ممن يحق لهم التصويت، وحظيت التعديلات بقبول 66% من هؤلاء.
بموازاة ذلك، تتطلع السلطات القديمة ـ الجديدة إلى استقطاب منظمات المجتمع المدني، والإعلاء من شأنها، واعتبارها أجساماً اجتماعية وازنة، وذلك في محاكاةٍ، كما يبدو، للنموذج التونسي، خلافاً للوضع في المغرب، حيث الأحزاب والنقابات والسلطات المحلية المنتخبة هي الأجسام الوازنة. علماً أن منظمات المجتمع المدني نشطت في السنوات القليلة الماضية فقط، ولم تمدّ بعد جذورها في الحياة الاجتماعية، بوصفها كياناً مستقلاً وذا تأثير. ومع التساؤلات عن صحة الرئيس، والتمني له وللمصابين بالوباء بالشفاء، فإن الضبابية تكتنف المشهد السياسي الجزائري، فقد تأثر الحراك الشعبي بظروف الوباء ومحاذيره، كما تأثر الوضع الاقتصادي في عموم البلاد بالتراجع الكبير في أسعار النفط، وحيث تمثل هذه الثروة الوطنية 95% من الدخل العام (بما يفوق اعتماد دول الخليج على النفط). وينتظر الاستحقاق الانتخابي تحديد موعد له، وتثور خلال ذلك مطالباتٌ بوضع قانون انتخاب جديد، بمشاركة اجتماعية واسعة، وإن لا يقتصر الأمر على أعضاء مجلس النواب الحالي الذي يجسد أبرز المظاهر المستمرة للعهد السابق.
تقيد التعديلات الفترة المتاحة لرئيس البلاد بولايتين منفصلتين أو متصلتين، وتدعو إلى إنشاء محكمة دستورية، وتمنح حرية للإعلام والأحزاب
والراجح أن تجديد النظام بصورة واسعة، لا تغييره، هو الخيار الذي يشقّ طريقه على أرض الواقع، وإلى إشعار آخر، وذلك في ضوء التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية والعرقية والوبائية، والتي تتطلب حلولاً موضعية وعاجلة، قبل الحلول القصوى، وفي ظل قيام المؤسسة العسكرية بدور محوري وفوقي في توجيه العملية السياسية والدستورية.