الجزيرة العربية في أعين الغرباء
سيكون عبد الله فيلبي، وهو هاري سانت جون فيلبي، دليلَنا ونموذجنا الأكثر شاعريةً إلى صحراء الجزيرة العربية، ذلك العارف بعقائدها وعاداتها وجبالها وأوديتها ودروبها الوعرة سنواتٍ تعدّت الأربعين، من جدّة إلى تبوك إلى أقصى الشرق وأرض مدين في الغرب واليمن حتى العراق، هل لأن الغريب في حياد مع الجمال، فيراه برقّة الشاعر من دون انفعال أو جرعات من الوطنية الزاعقة التي كثيراً ما تُفسد شاعرية المشهد وتحوّله إلى ميوعةٍ غنائيةٍ ملزمة.
نرى فيلبي، وهو في حيرة بعد سيول كبيرة في قلب رمال الصحراء، يرى طائر بجع وحيداً يلهو في مياه السيول، رغم البعد الشاسع لمياه البحر، فكيف فرّ الطائر من البحر إلى هناك وحيداً مستمتعاً بمياه السيول والسماء وسط الرمال؟ وهناك أيضاً يتأمّل نقوشاً ثمودية وبقايا قلعة تركية قديمة مهجورة في جبل أحد، رموز وأوتاد لممالك منسيّة، غطّت بعضها رمال الصحراء ودفنت أو ظلت بقاياها تعاند الأزمنة، وتشير من مكانها إلى غبار التاريخ وأهواله، حوض شعيب، وآثار أخرى جرفتها السيول، بقايا سكّة حديد الحجاز، هل هي الدهشة، دهشة الغريب، أمام غزارة التاريخ وطبقاته المتراكمة من عادات الوثنية ومعتقداتها مروراً ببقايا مندثرات من عاد وثمود وغيرهما مروراً باليهودية والمسيحية حتى الإسلام، دهشة الغريب وسط رمالٍ شاسعةٍ في صحبة دليلٍ عارفٍ قليل الكلام وكثير الصمت. وكثيراً ما يلحظ فيلبي من فجواتٍ في المعارف التي يسمعها من الدليل، وهو المحنّك والعارف أيضاً، فيتجاوز بلطفٍ مؤقتٍ احتراماً للرحلة ورغبة الدليل الدفينة أو الغامضة أحياناً، أو صمت الدليل أو تحايله لاختصار الطريق أو لتجنّبه الخوض في أمور هو في غنىً عنها، يضمرها فيلبي في نفسه في أثناء الطرق الوعرة، ولا ينسى أبداً تفسيرها في كتابة النصّ بعد الرحلة، احتراماً وتقديراً للحقيقة التي يحسّها.
هل تركنا جمالنا الأخّاذ يرصده غيرنا؟ أم هذا هو حال كل وطن؟ رسومٌ غامضةٌ لبعير أو لرجل أو لتيس أو لنعامة، فكيف اهتدت هذه النعامة إلى هذه الصحراء الوعرة وعاشت فيها منذ قرون، فهل فرّت من أفريقيا أو كانت هناك في الأصل في الصحراء، حينما كانت المياه بحاراً وهاجرت بعد الجفاف إلى أفريقيا، حرصاً على ديمومة الحياة وجمال ريشها فطالت الرقاب، حينما لانت الخضرة ومالت الأغصان من الأعالي، ومرّ علينا مواطنان من خيبر، يركبان على الحمير، ويبدوان أنهما في طريقهما إلى المدينة، ويكمل فيلبي المشهد: وكانا يأملان بصورة غامضة أن يكون هدف بعثتنا تخليص واحتهم من الملاريا وتنظيم مشاريع الري، فكيف أحسّ فيلبي ذلك الغموض الذي يحمل كل تلك المعاني في عيون الرجلين، وهما فوق الحمير؟ هل هي فطنة الغريب ولماحيته تكملان المشهد المضمر للرجلين.
هذا المناخ بغرابته وألفته أيضاً وشاعريته الأخّاذة لا يختلف، في قليل أو كثير، عن نباهة عيون الكاتب الأميركي بول بولز وهو يرصد مثيلاتها هناك، في الصحراء المغربية، في كتابه "شاي في الصحراء".
يصف عبد الله فيلبي بعض أجزاء الرحلة: "وجاءنا دور الشاي بعد العشاء، ولم يكن هناك ما يعكّر صفونا في تلك الليلة، إلا أنني نسيتُ أن أضع علبة الدخان في محفظة أغراضي الخاصة"، أو ذلك الطفل الذي كان يتولّى إعداد العشاء لهم محتمياً ببقايا مسجد قديم بلا سقفٍ من الريح وينصت للحكايا، ويكمل: "وقد استيقظنا عند الفجر للصلاة وشرب الشاي وتجمّعنا حول النار مدّة انتظاراً للشمس"، "وإلى البعيد باتجاه الشمال الغربي على كتف جبل عطوة تمتدّ جبال الهجر العظيم، بقممها الثماني الشاهقة التي تشكّل قوساً حوالي خمس عشرة درجة، وفي مسافةٍ أبعد إلى الشمال كان قمع جبل الغمرة الرائع يمثل علامة طريق السيارات من خيبر إلى حائل". أما حكاية عبد الله الهندي، وكيف أمسك بها عبد الله فيلبي من بين آلاف الحكايات المتراكمة في قلب الجزيرة عن الغرباء، وكيف جاءوا للحج وكيف استقرّوا وأعطتهم الدنيا، وما زال ينهشهم الحنين إلى أخبار بلدانهم القديمة التي أتوا منها بإراداتهم "وحكاية عبد الله الهندي من منطقة كراتشي، والتي أصبحت الآن جزءاً من باكستان، وتركها عبد الله منذ زمن طويل عام 1908، ليؤدّي مناسك الحج بمكة المكرمة، ويقضي بقية أيامه في جزيرة العرب"، وارتباط عبد الله الهندي في أواخر عمره بالمذياع كي يظلّ على صلة بالعالم الذي هجره منذ زمن طويل.