الحركة النقابية التونسية في مئويتها... في استذكار محمد علي مؤسّساً وزعيماً

30 ديسمبر 2024

أعضاء في الاتحاد العام التونسي للشغل يحتفلون في العاصمة بيوم العمّال (1/5/2024الأناضول)

+ الخط -

لا اختلاف بين المؤرّخين بأن تونس تعدّ مهد العمل النقابي العربي، ووطن انبعاث التجارب النقابية الأفريقية وبلدان العالم الثالث كلها، فقد شهدت ولادة أولى التنظيمات النقابية قبل مائة عام، من خلال بعث جامعة عموم العملة التونسية، التي أُعلن تأسيسها رسمياً في 3 ديسمبر/ كانون الأول 1924. وهذه المنظّمة من أكثر الحركات الاجتماعية والتنظيمات المدنية التونسية عراقة، بعد كلٍّ من حركة الشباب التونسي سنة 1907، ذات المنزع التحديثي، والحزب الحرّ الدستوري التونسي، أوّل حزب سياسي، أسّسه الزعيم عبد العزيز الثعالبي ورفاقه سنة 1920، وفي تأسيسهما كسرٌ لاحتكار الكونفدرالية العامة للشغل الفرنسية (CGT) ممارسة النشاط النقابي في تونس، وإعلان رفض الوجود الاستعماري الفرنسي، والاستعداد لمقاومته بالوسائل العصرية، والمضامين الجديدة المستنسخة من تجارب المقاومة المدنية في مركز النظام الرأسمالي في المملكة المتحدة وبلدان أوروبا الغربية.
في المدوّنة النقابية التاريخية، يحتلّ اسم محمد علي الحامي مكانةً عليّةً بوصفه باعثاً لجامعة عموم العملة التونسية، وقائدها ورمزها ومحرّك نضالاتها ومحتكر إرثها النضالي، والأب المؤسّس للحركة النقابية التونسية، بالرغم من أن قيادة الجامعة النقابية تشكّلت من كلّ من محمد علي كاتباً عاماً، وإبراهيم بن عمر كاتباً عاماً مساعداً، ومحمد قدّور أمين مال، والبشير الجوادي أمين مال مساعد، والمختار العياري ومحمود الكبادي ومحمد الغنوشي والطاهر الحدّاد والبشير الفالح وأحمد الدرعي ومحمد الخياري والطاهر عجم ومحمّد الدخلاوي بصفتهم أعضاء.
ينحدر محمّد علي، واسمه الكامل محمّد بن علي بن المختار الغفاري (نسبة إلى آل عبد الغفار من قبيلة بني زيد، القاطنة الحامة بالجنوب التونسي) من وسط ريفي وبدوي، غلبت عليه الصراعات القبلية، وعدم الاستسلام للهيمنة الاستعمارية، وتفشّي الفقر والخصاصة وانعدام الفرص، ما اضطرّ والده إلى اصطحابه إلى تونس العاصمة، حيث سيشتغل في البداية حمّالاً في السوق المركزية، ثمّ سائقاً شخصياً لقنصل النمسا بتونس، بعد حصوله على رخصة القيادة. ورغم يُتمه المبكّر من جهة الأمّ، وتعليمه الابتدائي المحدود في مسقط رأسه بقرية الحامة، استطاع محمد علي تحسين لغته العربية وتعلّم اللغة الفرنسية وحده، وتمكّن من اللغة الألمانية بعد أن تلقّى دروساً في القنصلية النمساوية، وسيكون لمعرفته بالألمانية كبير الأثر في تشكّل شخصيته قائداً نقابياً يحمل كاريزما وطنية وإقليمية.

زعامة محمّد علي وتجربة جامعة عموم العملة التونسية لم تدوما سوى نصف سنة، لكنهما تحيلان على عبقرية زعيم شابّ، ونضالية قلّ نظيرها

نحو هيكل نقابي في تونس
غادر محمد علي تونس سنة 1911 وعاد إليها سنة 1924، وبيّن في خطابه في الجلسة التأسيسية لجمعية التعاون الاقتصادي بمقر الخلدونية (في يونيو/ حزيران السنة نفسها التي عاد فيها) أن سبب خروجه من بلاده اندفاعه إلى إحساساته الإسلامية، فسافر إلى الشرق، من تركيا، ثم إلى مصر، ثمّ إلى طرابلس الغرب. وتُظهِر إحدى رسائله سنة 1922، التي أوردها الباحث حفيظ طبّابي في كتابه البيوغرافي "محمد علي الحامي 1890- 1928"، أهمّية تجربته خارج تونس. جاء في تلك الرسالة "بعد مبارحته تونس تحوّل إلى إسطنبول، ثمّ توجّه من هناك إلى طرابلس مرسلاً من الحكومة العثمانية، ليعود إلى إسطنبول ويشارك في حرب البلقان، ثمّ يلتحق بكلّية إسطنبول. وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى شارك فيها بصفته ضابطاً مُلحَقاً بأنور باشا إلى انتهاء الحرب. وقبل يومين من استيلاء الحلفاء على إسطنبول تحوّل مع أنور باشا وبعض الوزراء الآخرين إلى ألمانيا بنيّة الإقامة فيها بعض الوقت، ولمّا طال به المقام مكث بألمانيا لمواصلة دراسته التي امتدت ثلاث سنوات (نوفمبر/ تشرين الثاني 1921- يناير/ كانون الثاني 1924) في جامعة برلين لمتابعة دروس في الاقتصاد الوطني، مستفيداً من تشريع ألماني يسمح له بصفته يحمل الجنسية العثمانية مزاولة الدراسة".
ويذكر عالم الاجتماع التونسي عبد الباقي الهرماسي في أطروحته "الحركة العمّالية في مجتمع استعماري... تونس بين الحربين"، التي ناقشها سنة 1966 في جامعة السوربون الفرنسية، إن محمّد علي وأثناء دراسته في جامعة برلين كان يتلقّى دروساً في الاقتصاد والسياسة الاستعمارية والاقتصاد القومي ومالية الدول وتاريخ الحركة العمالية ونظرياتها ومفهوم التاريخ عند كارل ماركس. يبرّر محمّد علي اختياراته العلمية بالقول "دخلت إلى جامعة برلين، لكني احترت ما هي العلوم التي يتسنّى لي بها أن أخدم أمتي وبلادي، فاستدللت من الجرائد التونسية التي كانت ترسل إلي أن بلادنا متقهقرة من حيث حالتها المالية والاقتصادية مفتقرة إلى جميع المشاريع الحيوية".
حمل محمّد علي هواجسه الاقتصادية والاجتماعية وخلاصة تجربته في الجيش العثماني، وما غنمه من علوم من جامعة برلين الألمانية، وعاد إلى تونس للاستقرار فيها، مقرّراً الشروع في إنشاء مجموعة من التعاونيات الاستهلاكية للحدّ من الفقر والخصاصة، وتنظيم تلك التعاونيات في جمعية التعاون الاقتصادي، التي عقدت مؤتمرها التأسيسي نهاية شهر يونيو/ حزيران 1924، وأقرت قانونها الأساس، وبدأ الترويج لها في أوساط العمّال والتجّار والحرفيين.
في الأثناء شهدت تونس العاصمة إضراب عمال الرصيف يوم 13 أغسطس/ آب 1924، ثمّ تلاه إضراب عمّال رصيف مدينة بنزرت في أقصى الشمال يوم 17 من الشهر نفسه، ما جعل محمد علي يلتحق بالمضربين ويؤازرهم ويتضامن معهم، فيدافع عن مطالبهم، ويشكّل لجنةً تشرف على الإضرابات التي توسّعت دائرتها لتشمل قطاعات ومناطق أخرى، وتولّى رئاستها، لتفضي التجربة الإضرابية إلى بعث جامعة عموم العملة التونسيين أوّل نقابةٍ تونسيةٍ شرعت في تنظيم العمّال في نقابات تونسية مستقلّة عن النقابات الفرنسية، وتأطير أنشطتهم، ونشر الوعي النقابي في صفوفهم، وانتهت إلى عقد مؤتمرها التأسيسي يوم 18 يناير/ كانون الثاني 1925.
بالانتصارات التي تحقّقت لمحمّد علي ورفاقه في جامعة عموم العملة، ولعموم العمّال، أصبح لديهم هيكل نقابي تونسيّ يسندهم ويدافع عن مطالبهم في فترة وجيزة، وجعلت من الرجل زعيماً نقابياً وطنياً، وكانت ترصد تلك الانتصارات منظّمة "CGT" الفرنسية، والسلطات الاستعمارية، بعين حذرة وبريبة وخوف من توسّعها وتحوّلها مدخلاً للتمرّد على الدولة الاستعمارية والمطالبة بالاستقلال.
رحلة التيه
جاء الردّ سريعاً باعتقال السلطات الفرنسية الزعيم النقابي يوم 5 فبراير/ شباط 1925، وأُلحق به رفاقه بعد يومين على خلفية تنظيم مظاهرة عمّالية حاشدة تطالب بإطلاق سراحه. دامت فترة الاعتقال سنةً كاملةً قُدِّم في نهايتها للمحاكمة بتهم التآمر على أمن الدولة الداخلي والترويج لأفكار الجامعة الإسلامية التي جاء بها من تركيا، ومبادئ الاشتراكية الثورية التي تعلمها في ألمانيا، ودعوة العمّال للصمود، حتى إن أدّى ذلك إلى سيلان الدماء، واعتماد بطاقة عضوية بجامعة عموم العملة تحمل شعار المنجل والمطرقة، الذي تعتمده الحركات والأحزاب الشيوعية، وصدر في حقّه حكمٌ بالنفي خارج تونس والمستعمرات الفرنسية عشر سنوات.
بتنفيذ السلطات الفرنسية حكمها يوم 28 نوفمبر1925، بدأت رحلة التيه التي عاشها محمد علي طريداً من دولة إلى أخرى ملاحقاً بتهمة الشيوعية، فتم سجنه بإيطاليا ثمّ إبعاده إلى إسطنبول، وبدورها السلطات التركية أبعدته إلى مصر، ومنها إلى طنجة مروراً بجبل طارق وكان ينوي الانضمام إلى المقاومة المغربية بقيادة عبد الكريم الخطابي، ولكن ألقي عليه القبض وأودع السجن من جديد، وأبعد بعد ذلك إلى مرسيليا ثم إلى مصر بعد منعه من دخول باريس، وانتهى به المقام سائقاً ينقل المسافرين والحجاج بين جدّة ومكّة إلى أن لقي حتفه في حادث سير بين المدينتين يوم 10 مايو/ أيار 1928.
زعامة محمد علي وتجربة جامعة عموم العملة التونسية التي لم تدوما سوى نصف سنة، وما تلقّاه من تمجيد وإشادة من المرويتين النقابية والوطنية في تونس، تحيل على عبقرية زعيم شابّ، وعلى نضالية قلّ نظيرها في تاريخ الزعامات التونسية والعربية، ولكنّها تكشف كذلك تجربةً مأساويةً أدّت إلى نهاية سريعة دون سنّ الأربعين، ولا يستبعد بعض المؤرّخين عنصر المؤامرة، وكان من ضحاياها أيضاً الطاهر الحداد، صاحب كتابَي "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" (1927) و"امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1930)، الذي غيّبه الموت في سنّ 36، بعد أن تعرّض لموجات من التهجّم والمطاردة والإقصاء والتنمّر على خلفية فكره التحرّري.
عرفت تونس محاولة لإحياء تجربة العشرينيات النقابية من خلال جامعة عموم العملة الثانية أو ما يعرف بنقابة الكرارطية سنة 1937 بقيادة بلقاسم القناوي، لكنّ هذه التجربة بدورها فشلت بسبب محاولة تحزيبها من الحزب الحرّ الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة، وأحداث 8 و9 إبريل/ نيسان 1938، التي ارتقى فيها شهداء، وعرفت موجة عاتية من القمع والاعتقالات.
الاتحاد العام التونسي للشغل
ويعدّ الاتحاد العام التونسي للشغل الوريث الشرعي لجامعة عموم العملة التونسيين، وفي تأسيسه سنة 1946 تحقيق أهداف محمّد علي وجامعة عموم العملة في تونس في العمل النقابي، وإيجاد هيكل نقابي خاصّ بالعمال التونسيين. ورغم أن الاتحاد ينحت على حيطان بناءاته، التي لا تخلو منها ولايات تونس ومعتمدياتها، ويرسم في منشوراته، وفيما يعلّقه من صور بمقرّاته، صورة محمّد علي، جنباً إلى جنب مع أبرز الزعامات النقابية بالاتحاد وهم فرحات حشّاد وأحمد التليلي والحبيب عاشور، ويطلق اسم محمّد علي على أشهر بطحاء تقام فيها الاجتماعات، وتشهد بنضالات أجيال من النقابيين والسياسيين... رغم ذلك، جاء إحياء الاتحاد العام التونسي للشغل لمئوية العمل النقابي وتأسيس جامعة عموم العملة فاتراً ضعيفاً، مكتفياً بتنظيم ندوة فكرية يوم 6 مايو/ أيار من السنة الجارية (2024)، بعنوان "مؤسّسون في الذاكرة... محمّد على الحامي بلقاسم القناوي فرحات حشاد".

جرّاء الأزمة الداخلية للاتحاد العام التونسي للشغل، مرّت الذكرى المئوية لإنشاء جامعة عموم العملة من دون اهتمام يليق بها

ونظراً إلى حالة البرود والقطيعة، التي وصلت إلى حدّ الصراع بين الرئيس قيس سعيّد والاتحاد العام التونسي للشغل، لم يترك سعيّد المناسبة تمرّ من دون تحقيق نقاط سياسية على حساب الاتحاد، معتبراً نفسه الأوفى في المحافظة على الإرث النقابي التونسي، والمؤتمن على الذاكرة النقابية الوطنية، وصاحب شرعية مواصلة المسيرة النقابية التاريخية، من موقعه في رأس الدولة التونسية، فاستدعى في 3 من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، في الذكرى المئوية لتأسيس جامعة عموم العملة، كلّاً من وزير الشؤون الاجتماعية ووزير التشغيل والتكوين المهني وكاتبة الدولة المكلّفة بالشركات الأهلية في الوزارة نفسها، وألقى على مسامعهم، ومن خلالهم للرأي العام في تونس، خطاباً جاء فيه: "تونس تحتفل اليوم بالذكرى المئوية لإنشاء جامعة عموم العملة التونسية، التي أحدثت يوم 3 ديسمبر 1924، بعد سلسلة من الاجتماعات واللقاءات، التي قادها الزعيم محمّد علي الحامي، رائد العمل النقابي في البلاد العربية والأفريقية". وأضاف بيان الرئاسة التونسية في "فيسبوك"، "واستعرض رئيس الجمهورية مطوّلاً مسيرة الزعيم النقابي محمّد علي الحامي، الذي كان يتّقد وطنيّةً وذكاءً بالرغم من الصعوبات التي واجهها طوال حياته. فبإرادة ثابتة انتقل من حمّالٍ في فندق الغلّة نتيجة للفقر ولشظف الحياة إلى مختصٍّ في الاقتصاد السياسي، بعد أن تحصّل على شهادة عليا في هذا المجال. وليس من قبيل المصادفة أن يكون الزعيم فرحات حشّاد أشار إليه بأنه أبو الحركة النقابيّة في تونس ومن زرع البذرة الأولى لهذه الحركة".
ومن الواضح أن عدم إيلاء الاتحاد العام التونسي للشغل مئوية العمل النقابي في تونس الاهتمام الذي يليق بذكرى التأسيس، وجعل 2024 عاماً نقابياً تُقام فيه التظاهرات النقابية في مدار السنة مركزياً ومحلياً، مردّه الأزمة الداخلية التي يتخبّط فيها الاتحاد. وهي أزمة ناتجة عن سوء العلاقة بسلطة الرئيس قيس سعيّد، التي لقيت في البداية تأييد الاتحاد ودعمه، وعن الانقسام الداخلي الحادّ بين أعضاء المكتب التنفيذي بشأن فكرة المؤتمر الاستثنائي وقيادة المرحلة المقبلة وشروط التداول على المراكز القيادية في الاتحاد.