الحصاد المُرُّ للتواطؤ مع الشعبوية والشعبويين
يثير إخفاق مجلس النواب الأميركي في انتخاب رئيسٍ له على مدى ستِّ جولات (حتى كتابة هذه السطور)، جملة من الإشكاليات في العمل العام، بمعنى أنها تتجاوز السياق الأميركي، إلى فضاء أوسع يؤثر بنا جميعاً. وقبل الخوض في تلك الإشكاليات، من المفيد أن نُذَكِّرَ بخلفية القصة محل النقاش هنا. في الانتخابات النصفية الأميركية أخيرا حصد الجمهوريون أغلبية ضئيلة في مجلس النواب دون ما كانت تتنبَّأ به لهم استطلاعات الرأي. لدى الجمهوريين، حالياً، 222 مقعداً من أصل 435، والديمقراطيون 212 مقعداً، في حين لا يزال هناك مقعد واحد شاغر بسبب الوفاة. وحتى يفوز أي مرشّح بمنصب رئيس مجلس النواب، فإنه بحاجة إلى 218 صوتاً، وهو ما يعني نظرياً أن زعيم الأغلبية الجمهورية، كيفين مكارثي، يفترض أن يكون رئيس المجلس الآن. لكن، هناك 20 نائباً يمينياً جمهورياً شعبوياً محسوبين على معسكر الرئيس السابق، دونالد ترامب، يرفضون أن يكون مكارثي مرشحهم. ورغم ما قدّمه لهم من تنازلاتٍ جوهريةٍ تجعل من رئاسته المجلس، إن آلت إليه، ضعيفة إلا أنهم ما زالوا يصرّون على رفض دعمه. حتى دعوة ترامب لهم إلى الاصطفاف خلف مكارثي لم تنجح في تغيير موقفهم، على الأقل حتى اللحظة. وفي كل الأحوال، هم حتى وإن قبلوا بصفقة معه، أو في حال قبول الديمقراطيين مساعدته عبر جملة من الوسائل، وهو الأمر المستبعد ويثير إشكالات أخرى، ليس هذا محلّ نقاشها، فسيكون مكارثي أقرب إلى رئيس صوري لمجلس النواب، مقابل الحصول على مسمّى المنصب.
لنضع السيناريوهات المحتملة هنا جانباً، ولنركّز في بعض الإشكاليات الأعم والأوسع التي تختزنها وتعكسها أزمة مكارثي، وأشير إلى أربع منها: تتعلق الأولى بإحدى نقاط ضعف الديمقراطية مفهوما وممارسة، والتي قد تسمح بحدوث اختلالٍ في آليات عملها (dysfunctional democracy) تظهر أزمة انتخاب رئيس مجلس النواب الأميركي أن بعض السياقات القائمة على احترام توازنات معينة والمضطرّة إلى إبرام صفقات سياسية جائرة قد تؤدّي، في المحصلة، إلى نشوء "ديكتاتورية أقلية". هذا بالضبط ما يجري هنا، فعشرون نائباً هم أقلية ضمن أغلبية حزبهم، وأهم أقلية أصغر ضمن مجموع أعضاء مجلس النواب عموماً. ومع ذلك، هم يملكون قوة أكبر من حجمهم بكثير، وقادرون على فرض شروط جوهرية تمكنهم، فعلياً، من التحكّم بالجميع، في ضوء عدم قدرة، أو حتى عدم رغبة الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، في العمل معاً. ليس هذا الخلل محصوراً في التجربة الأميركية فحسب، بل هو قابل للتعميم.
ترتبط الإشكالية الثانية بخطورة الخطاب الشعبوي غير المحكوم بمرجعية إيديولوجية واضحة، والمفتقر لأجندة سياسية محدّدة. التيارات الشعبوية فوضوية بطبيعتها، تضرب على أوتار حسّاسة عند الجماهير، بحيث إنها إما تعظّم من مخاوفهم وهواجسهم من شيءٍ أو أشياء معينة، أو أنها تعطيهم وعوداً زائفة بمستقبل أفضل، ولكن من دون توفرها على استراتيجيات ورؤى وبرامج لتحقيق ذلك. يتصل بذلك، وهي الإشكالية الثالثة، أن السياسيين الشعبويين عاجزون عن استيعاب فكرة أنهم انتُخبوا كي يحكموا، بل تراهم مستغرقين أكثر في إحداث فوضى في أنظمة الحكم، إذ يعتبرون أنفسهم دائماً في مواجهة مع "الدولة العميقة"، حتى وإن كانوا على رأسها. هذا كان النموذج الذي قدّمه ترامب في سنوات حكمه الأربع، والذي تعتبر الأزمة الحالية في مجلس النواب امتداداً له. وهذا هو بالذات النموذج الذي تجسّده تجربة قيس سعيّد في رئاسة تونس.
كم المصائب التي حدثت جرّاء إعلاء بعضنا من شأن شعبويين أو تقديمهم في حقول عديدة؟
تتعلق الإشكالية الرابعة بالتواطؤ الذي يمارسه بعضهم في تمكين الخطاب الشعبوي وأصحابه، ثمَّ لا يلبثون هم أنفسهم أن يتحوّلوا إلى ضحايا لهم. ليس مكارثي سياسياً مظلوماً في ما يتجرّعه من إهانات اليوم، بل إن انتهازيته هي ما أوصلته إلى هذا الحال. لم يدّخر مكارثي جهداً في التذلّل لترامب رئيساً وبعد هزيمته. تماهى مع مزاعمه عن سرقة الانتخابات منه. حمّله، ابتداء، مسؤولية اقتحام أتباعه مبنى الكونغرس مطلع عام 2021، قبل أن يسارع إليه طالباً العفو والصفح. وهو فوق هذا وذاك سكت عن عبث ترامب في نوعية مرشّحي الحزب الجمهوري للكونغرس في الانتخابات النصفية، والتي كلفتهم تفويت فرصة السيطرة على مجلس الشيوخ، وخسفت الأرض بالأغلبية الكبيرة التي كانت تتوقعها لهم استطلاعات الرأي في مجلس النواب. المفارقة أن من يسعى في إذلاله هم أنفسهم من تفادى المواجهة معهم، وتواطأ في تهيئة الأرضية لهم لفرض الفوضى التي تعطي معنى لوجودهم.
إذا كان من درسٍ ينبغي أن نستفيده مما يجري في انتخابات رئاسة مجلس النواب الأميركي فهو تجنّب إسباغ أي شرعية على شعبويين ومتعصبين من دون منطق، ورفض أي تحالف معهم، وعدم التورّط أبداً في محاولات تمكينهم. لا يُؤمن جانب مثل هؤلاء، حتى ولو صدقوا في عهودهم، إذ إن من لا ينتعش إلا بالفوضى، لا يمكن الرهان على انضباطه. تُرى، كم المصائب التي حدثت جرّاء إعلاء بعضنا من شأن شعبويين أو تقديمهم في حقول الدين والاجتماع والسياسة والطب .. إلخ؟