الحوكمة الغائبة والمغيبة من مخيال كردي في سورية
أثيرت كثيراً قضية تطبيق الحوكمة في مناطق الإدارة الذاتية، الكردية في شمال سورية وشرقيها، والاستفادة من المخزون البشري التكنوقراطي وتوفير الشفافية المطلوبة، بما يتناسب وينسجم مع التغيرات السياسية والعسكرية المتلاحقة في المنطقة. وقد تصدرت قضية الحوكمة نقاشات الرئيس الفرنسي، ماكرون، خلال اجتماعه مع وفد الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية في 20 يوليو/ تموز في باريس. وفي وصف الطرح وشرحه، الحوكمة هي نظام للرقابة والمتابعة والتوجيه المؤسسي، ويعتبر الناظم للمسؤوليات والحقوق والواجبات، خصوصا أن العناصر الأساسية الثابتة للحوكمة الرشيدة هي النظام الموثق، الخطط الاستراتيجية الدائمة، وهي العمود الفقري لأي مشروع أو خطة عمل، ثم الوصول إلى ثقافة العمل المؤسساتي. وتاليا، فإن هذه العناصر الثلاثة تنشئ ثقة متبادلة بين السلطة والشعب، وتضمن الحصول على نظام موثق وأرشفة سليمة للعمليات الإدارية والسياسية والموارد المالية وقواعد للعمل الإداري لا يمكن التلاعب بها. كما أن تطبيق مبادئ الحوكمة الستة كفيلة بتوفير الحكم الرشيد وضبط العمل والتشبيك بين المؤسسات والهيئات الموجودة، وهي: المشاركة، سيادة القانون، الشفافية، التجاوب، التوافق، العدل والشمولية.
وفي شرح مبادئ الحوكمة، فإنّ المشاركة تعني التنسيق والتعاون بين الأطراف الفاعلة وذات المصلحة، بهدف تحقيق الاستراتيجية لهيكل الحكم المحلي. وهو ما يتطلب وجود هيكل قانوني عبر الانتخابات، وإلغاء تعيين المناصب السيادية الرئيسية، واحترام كامل حقوق الإنسان. وحينها يكون المبدأ الثالث المتعلق بالشفافية التي تؤمن سلاسة وصول المعلومات وتوفرها أمام من يحقّ له الحصول عليها، خصوصا تفاصيل الميزانية والقرارات المتعلقة بالصرفيات والقضاء وملف الحريات، وشراكة قرار السلم والحرب، وهذا ما يعني توفر العنصر الرابع، التجاوب، وتوفير المعلومات المطلوبة خلال فترة محددة. لكن هذه العناصر الأربعة تبقى ضعيفة وغير فاعلة، لو لم يتحقق عنصرا التوافق بين الأفراد والمكونات والأطر السياسية ضمن الجسم الواحد ومع الآخرين، خصوصا الأطراف المعارضة، وتحقيق العدل والشمول، بما يضمن وجود نظام حكم قضائي عادل غير مسيس، وغير حزبي، وعدم تهميش الفقراء وأصحاب قضايا الرأي والشأن العام، وشمول القانون على الجميع.
الحوكمة هي نظام للرقابة والمتابعة والتوجيه المؤسسي، ويعتبر الناظم للمسؤوليات والحقوق والواجبات
ويدفع هذا الحال إلى إسقاط هذه المبادئ وصلب قضية الحوكمة بعلاقتها بالإدارة الذاتية، فإن ما تحتاج إليه الإدارة الذاتية لتجاوز العقبة والخطوة الأولى في سبيل نيل الاعتراف السياسي هو توفر العناصر الثلاثة والمبادئ الستة، والتي بدورها تدعم نظام العدالة والمساءلة القانونية والدستورية وتعزيز الشفافية، وهو ما يؤمن بسلاسة أرضية الثقة بين المجتمع المحلي والإدارة الذاتية. وبشكلٍ أدق، عدم اقتناع القواعد الاجتماعية وفقاً لما يتم رصده على وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر ما يتم تداوله من أحاديث رسمية أو شعبية، يعود إلى فشل قيادة وتيسير أمر الهيئات الإدارية والسياسية التي أسستها الإدارة الذاتية، وعدم تسيير أمور الأهالي المجبرين على التعامل معها، وهو ما يشيع حالة النفور تلك. يضاف إليها ملف حقوق الإنسان، ومنع التشاركية الحقيقية، وغياب الشفافية، وعدم نيل أيّ اعتراف سياسي.. إلخ. وعلى الرغم من أحاديث "الإدارة الذاتية" عن الحوكمة وتطبيقها وترويجها، إلا أنها حتى راهن الحال لن تتمكّن من تفعيل الحوكمة لسببين مركبين.
أول السببين أن المطلوب هو تشارك النخب والكتل السياسية والثقافية والفكرية في جميع مفاصل الحكم المحلي، وتبادل المعلومات مع الجهات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني والباحثين في الشأن السياسي والاجتماعي؛ لضمان مشاركة تلك القطاعات في العمل السياسي والإداري المشترك، والتصوّر الجماعي للاستجابة المطلوبة لعمل الإدارات المحلية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحسين الخدمات ومضاعفة جودتها. والسبب الثاني عدم قدرة الإدارة الذاتية على تفعيل الحوكمة، لأنها تعني وتطلب وتشترط وتؤكد على التشاركية السياسية والإدارية في القرارات والموارد المحلية والمالية والمناصب السيادية، ومناصرة المظلومين والدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، وهو ما لا يزال غائبا في الخطط المعلنة منهم.
ما تحتاج إليه الإدارة الذاتية لنيل الاعتراف السياسي هو توفر ما يدعم نظام العدالة والمساءلة القانونية والدستورية وتعزيز الشفافية في برامجها وسياساتها
من جانب آخر، وعلى الصعيد المدني، في حالة تطبيق الحوكمة في مؤسسات "الإدارة الذاتية" بالشكل السليم، فإنها كفيلة بالجمع بين الجهات الفاعلة في العمل الحكومي المشترك بين السلطة والمعارضة، والعمل الإنساني بهدف حوكمة العمل المدني ومؤسساته لتحقيق العدالة الاجتماعية والاستدامة الاقتصادية والتنموية وغيرها. بمعنى أن الحوكمة ستكون على علاقة مباشرة بصون حقوق منظمات المجتمع المدني، ومنحها أسّ عملها السليم في مراقبة عمل الحكومة وتقييم عملها، إضافة إلى أنها (الحوكمة) ستكون السيف المسلط على رقاب المنظمات المشبوهة، الشكلية، الاسمية، غير الفاعلة، والتي تذهب مواردها المالية من المنظمات المانحة، في غالب الأحيان، للمصاريف الإدارية والمواصلات، وبغير وجه حق...
وفي الجانب الآخر من المعادلة السياسية الكردية، حيث هيكل المجلس الكردي، الذي يجسّد وجود شرائح وقطاعات مجتمعة متنوعة، ونالت عضوية هيكل أكبر منها متجسّد بالمعارضة السورية وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، وكونها سلطة غير رسمية، وليس سلطة أمر واقع، تاليا لا تحتاج إلى قانونية وجودها وفقا للقانون الذي تتطلبه الحوكمة، وما يساعدها أنّ المناصب الرئيسية لديها تتم عبر عملية انتخابية، وإن شهدت تحالفات أو تقاربا وتوافقا فيها، لكنها لا تعتمد على مبدأ التعيين، إلا ضمن عضوية المكاتب نفسها، وهذا أمر يشفع لها أنها لا تشكل سلطةً أو واجهة للحكم المحلي، وليس بالإمكان إجراء انتخاباتٍ لتعيين عضو ناشط في مكتبٍ معين على سبيل المثال. لكن المجلس الكردي أيضاً عاجز عن تفعيل مبدأ الحوكمة، حيث يقتضي ذلك، خصوصا مع إهمال أغلب مكاتبه التي تؤسس هيكليته، وعدم التفاف النخب الثقافية والفكرية حوله، لما لاقته من إهمال وإبعاد، سواء متعمد أو بسبب عدم تمكّن المجلس من استيعابهم.
لم ينجح المجلس الكردي في إيجاد مؤسسة واحدة رديفة له أو منظمة مدنية تعمل في الشأن العام
صحيح أن المجلس الكردي لم يمارس تجاوزات في ملف حقوق الإنسان والحريات، لكنّه في المقابل لم ينجح في إيجاد مؤسسة واحدة رديفة له أو منظمة مدنية تعمل في الشأن العام، تكون بمثابة ذراع مجتمعي داخل القواعد الاجتماعية، وتوقفت، منذ قرابة عامين أو أكثر عن التشارك مع القطاعات المجتمعية في أعمالها، وبقيت مجالسها المحلية خارج سياق العمل المطلوب، وإن كانت تتحجّج بمنع قرارات "الإدارة الذاتية" لها من العمل، لكن الكثير من قنوات التواصل بين القواعد الاجتماعية والمنظمات الدولية الفاعلة كان يمكن لها أن تشكّل نسقاً للتشارك المجتمعي. وتالياً افتقد المجلس الكردي عنصر التوافق مع المجتمع المحلي، والذي كان عمقه الأساسي في كل مواجهاته السلمية المدنية ضد قرارات "الإدارة الذاتية". أما على صعيد العدل والشمولية، فإنها أيضاً لم تحقق المطلوب، ولم تلتفت إلى إيجاد الكادر الإداري المطلوب، والذي يحمل عنصر التفوق على موظفي الإدارة الذاتية وقياداتها، وهي التي يستمر المجلس الكردي بالتحجج والتركيز على أنهم فاقدون الأهلية الإدارية وما شابه.
في العموم وقصارى القول: لا يقتصر عمل الحوكمة ومبادئها وعناصرها على هيكل الحكم الحكومي وحده، وإن كان الأكثر عرضة للانتقاد والمتابعة والملزم بالتطبيق، كونه الجهة الواجهة للبلد والعمل الإداري والعسكري والسياسي، بل إن هياكل المعارضة والمنظمات المدنية والأجسام السياسية غير المنضوية في الإدارة الذاتية هي الأخرى ملزمةٌ بهذه التطبيقات، وهو ما يشمل الأطر السياسية والإدارية للعرب والسريان الآشوريين أيضاً، والذين يفتقدون تلك المبادئ والعناصر.