الخطاب الإسرائيلي في الإعلام الفرنسي
شهد قطاع الإعلام العام بمختلف وسائله، وخصوصاً الإذاعة العامة، إضراباً عاماً متزامناً مع مناقشة البرلمان الفرنسي مشروعاً حكومياً يقضي بدمج مؤسّساته في منظومة اقتصادية مشتركة ذات ربحية، بعد أن كان يمتنع عن وضع العائد المالي بين أهدافه. وقد اعتبر بعضهم هذه الخطوة تمهيداً وتهديداً بنقل ملكية الإعلام العام إلى القطاع الخاص أو محاولة تعديل أساليب إدارته، بحيث يهدف الدمج إلى التخفيف من استقلاليته، كما البدء في تخفيض عدد العاملين فيه.
وبعد اعتماد عدد مؤثّر من المتابعين على هذا الإعلام العام مصدراً، شبه موثوق وشبه موضوعي وشبه محايد، في التطرّق إلى الأخبار المحلية والدولية ومعالجتها، أجبر هذا الإضراب المستمعين إلى اللجوء في مناكب البحث عن الأخبار التي صار الاستماع إليها وكأنه جزءٌ لا يمكن التخلي عنه من الطقس الصباحي اليومي إلى جانب قهوة الصباح. وليست الخيارات لدى هذا الساعي عديدة في غياب الإذاعات العامة، التي تتصدّر أعداد مستمعيها كل استطلاعات الرأي الجادّة، فيضطر المرء لزيارة الإذاعات الخاصة، التي صارت خلال السنوات العشر الأخيرة جزءًا من امبراطوريات إعلامية لم تكفّ عن التوسّع والامتداد. وما يُميّزها هو الميل إلى اليمين وأقصاه.
تجربة صباحية حملتني على التنصّت، وبشيءٍ من الخجل كالذي يُصيب العاقل عندما يجد أنه يستمع إلى أغانٍ هابطة، إلى محطّتين إذاعيتين إخباريتين. أولاهما أُلحقت أخيراً بمجموعة إعلامية يمتلكها حوت اقتصادي، تتجاوز طموحاته امتلاك وسائل الإعلام ليصل إلى تملّك كبرى دور النشر، كما شركات الإنتاج الفني، ما يعطيه الفرصة الذهبية لتوجيه الرأي العام والذائقة الأدبية كما يحلو لمعسكره اليميني المتطرّف والنيوليبرالي أن يؤسّس له في المشهد العام الفرنسي خصوصاً، والأوروبي عموماً. ولكي يتحقق له ذلك، يجهد من خلال إعلامه إلى بث الفكر المعادي للهجرة وللمهاجرين، إضافة إلى تميّز خطابه بالرّهاب من الإسلام ومن المسلمين، إلى جانب تبنّي وجهة نظر الاستعمار الغربي، القديم منه والذي استعمل الأبواب، أو حديثه الذي يقفز عبر النوافذ. أما الثانية، فهي حتى في عنوانها تضع نفسها في مقام الإذاعة الطائفية، حيث تُحدّد ديناً بعينه في عنوانها، على الرغم من "علمانية" الدولة الفرنسية التي تُطبّق على قواعد انتقائية لا تتسّم بالحياد.
الإعلام الفرنسي في مجمله يساند الخطاب الإسرائيلي مهما كذب
جرى، في الإذاعة الأولى، استعراض نتائج دراسة "علمية" أجراها مركزٌ بحثيٌ أسمع به للمرّة الأولى. وقد عُرِّف مركزاً بحثياً مرتبطاً بالتيار "المحافظ" الفرنسي، ما يمكن ترجمته بالقول إنه مرتبط باليمين المتطرّف الفرنسي حتماً. نتائج هذه الدراسة "العلمية" والتي، ويا للمصادفة، تُنشر في يوم إضراب شامل لوسائل الإعلام العامة، تُشير إلى ما تسمّيها هيمنة اليسار، على أنواعه، على المشهد الإعلامي العام. وعند التوسّع في هذا الاستخلاص، يجد "الباحثون" أن الفكر اليساري يوجّه مجمل العاملين في هذا القطاع الإعلامي العام ويدفعهم إلى التحيّز في الأداء. وينعكس ذلك، حسب المركز البحثي "اليميني المتطرّف" دائماً، في اختيار الشخصيات السياسية التي يُعطيها هذا الإعلام مساحةً للتعبير ونقل وجهات نظرها في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. وحتى تكون الدراسة متفقة مع توجّهات القائمين عليها والمنتمين إلى تطرّف سياسي واجتماعي يتحضّر لتصدّر المشهد العام في فرنسا، بمساعدة ثمينة من فترتي رئاسة ايمانويل ماكرون، فمن المؤكّد أنها ستستعرض تحالفاً تعتبره قائماً بين اليسار والمسلمين حتى المتطرّفين منهم. وتصبح مفرداتٌ، كحقوق الإنسان وإزالة الاستعمار وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، من الموبقات التي يُستحسن تجنّبها. وفي الخلاصة، ستستعرض هذه الإذاعة معالجة الإذاعات العامة مسألة الحرب على غزّة، على أن فيها تحيّزاً واضحاً للضحايا الفلسطينيين، مع أن هذا غير صحيح، ليكتمل المشهد الذي تجب على هذه الإذاعة اليمينية المتطرّفة إدانته.
في الإذاعة الثانية، صاحبة العنوان الطائفي الواضح، وعلى الرغم من أنها فرنسية الهوية رسمياً، إلا أنها إذاعة للدعاية الصهيونية باللغة الفرنسية. يغلب على نشراتها الإخبارية الخبر القادم من تل أبيب، والذي يمزج بين البروباغندا الصهيونية والأكاذيب المختلقة بخصوص الآخرين. ومن الضروري التذكير في كل خبر بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي هو الجيش الأكثر "أخلاقية" في العالم. كما يجب تكرار توصيف دولة إسرائيل بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، فأسماء الأسرى لدى حركة حماس يحظون بفقرات مكرّرة للتذكير بمأساتهم بعيداً عن أي ذكرٍ للضحايا الفلسطينيين الذين يتجاوزون عشرات الآلاف. تكثف الإذاعتان الحملة المسعورة على محكمة الجنايات الدولية، وعلى المدّعي العام فيها خصوصاً، وذلك بعد توجيه تهم جرمية لرئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزّة يُعاقب عليها القانون الدولي.
نموذجان يستحقّان التوسّع في الوصف وفي التحليل يمنحان المتابع صورة مختزلة لوضع إعلامي يُهيمن على المشهد الفرنسي. فعلى الرغم من اتفاق اليمين المتطرّف الفرنسي وممثلي التوجهات الصهيونية في الإعلام الفرنسي على اتهام الإعلام العام بالتحيّز ضد إسرائيل وتقديم وجهة نظر الطرف الآخر، إلا أن الوقائع تنفي ذلك، فالإعلام الفرنسي في مجمله يساند الخطاب الإسرائيلي مهما كذب.