"الخطر الصيني" في الخطاب الغربي... المبالغة والواقع
صعود الصين إلى القوة يرسم مشهداً جديداً في العلاقات الدولية، مقلقاً للغربيين. صانعو القرار في واشنطن يتحدّثون باستمرار عن "التهديد" و"الخطر" و"التحدّي" الصيني. سال حبرٌ كثيرٌ في الصحافة والمنشورات الأكاديمية عن المسألة. وأحياناً، تتشابه العناوين والمصطلحات وتتكرّر الأفكار من خطاب إلى خطاب، ومن كتاب إلى كتاب. ويستدعي التحدّي الرد والاحتواء. ويتطلّب مصدر الخطر فعلاً ما للقضاء عليه، لكنّ فعلاً كهذا يحمل عنواناً واحداً: الحرب. وحربٌ كهذه ستكون نووية، قد لا تشتعل بإرادة أحد اللاعبِين، بل ربما بسبب حادثة عرضية أو نتيجة سوء تقدير. يشعر الغرب بأنه يواجه معضلةً في المسألة الصينية، فهو يأمل أن تنهار الإمبراطورية الصينية - الشيوعية من تلقاء نفسها، نتيجة أزماتها الاقتصادية مثلاً، خصوصاً بعد أزمة وباء كورونا. يصعب الرهان على فرضية كهذه، ففي الوقت نفسه، يستحيل على الغرب قطع علاقاته التجارية بالصين. ويبقى الاعتماد المتبادل سيد الموقف، ولا سيما بين بكين وواشنطن.
انفصام الشخصية
في الواقع، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تعاني من "انفصام الشخصية" في تعاطيها مع الصين. فهي ترسل، من جهة، ممثليها إلى بكين، وزيرة التجارة الأميركية، جينا ريموندو، في أواخر أغسطس/ آب 2023، لإدارة العلاقات والخلافات التجارية بطريقة دبلوماسية معها، ولتأكيد خيار التعاون الثنائي في هذا المجال. ومن جهة ثانية، تصعّد مع حلفاء لها نبرة خطابها السياسي ضد الصين. والعينات تفيض: الرئيس، جو بايدن، يعلن أمام "مجموعة السبع"، في 19 فبراير/ شباط 2021، تعهده بمواجهة الخطر الصيني و"انتهاكات" بكين الاقتصادية، مبشّراً بأن التنافس مع بكين سيكون حامياً. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2021، يبرّر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، إطلاق "وحدة متخصصة في قضايا الصين (CMC)"، بالحاجة إلى "تعزيز عمل الوكالة الجماعي بشأن أهم تهديد جيوسياسي تواجهه أميركا في القرن الواحد والعشرين، أي حكومة صينية متزايدة العداوة". وفي 31 يناير/ كانون الثاني 2022، يقول مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف بي آي)، كريستوفر راي: "لا يوجد بلد يمثل تهديداً كبيراً على أفكارنا وابتكاراتنا وأمننا الاقتصادي مثل الصين". وخلال جلسة استماع عقدتها لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، في 9 مارس/ آذار 2023، تفيد مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، أفريل هاينز، بأنه "باختصار، يمثل الحزب الشيوعي الصيني التهديدَ الرئيسي والأكثر تداعيات على الأمن القومي للولايات المتحدة والقيادة على مستوى العالم". ومن لندن، وفي أول خطاب رئيسي له بشأن السياسة الخارجية، يذكر رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أن "الصين تشكّل تحدّياً منهجياً لقيمنا ومصالحنا، وهو تحدٍّ تزداد خطورته مع تحرّكها باتّجاه مزيد من الاستبداد". هو نفسه يعلن، في 13 مارس/ آذار 2023، أن الصين تمثل "أكبر تهديد تمثله دولة لمصالحنا الاقتصادية"، معتبراً أن الأمر يتعلّق بـ"تحدٍّ عام للنظام العالمي". وذلك كله نقلاً عن تقارير صحافية عربية.
حراك التحالفات
لا يقتصر هذا الخطاب على واشنطن ولندن في الغرب. يربك "التحدّي" الصيني أيضاً حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي يرى، وفق بيان قمة فيلنيوس، في 11 يوليو/ تموز 2023، أن "طموحات (الصين) المعلنة والسياسات القسرية التي تنتهجها تطرح التحدّيات أمام مصالحنا وأمننا وقيمنا". المسائل التي تثير قلق "الناتو" تتعلق بـ"زيادة بصمة وجود (الصين) حول العالم"، وتسترها "على استراتيجيتها ونيّاتها وجهود بناء قواتها العسكرية"، فضلاً عن "استهداف الحلفاء والإضرار بأمن الحلف من خلال العمليات الهجينة والسيبرانية الخبيثة" واستغلالها "نفوذها الاقتصادي بغرض خلق روابط التبعية الاستراتيجية وتعزيز نفوذها"، ناهيك بسعيها الدؤوب "لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد، بما يشمل المجالات الفضائية والسيبرانية والبحرية". ورداً على ذلك، يتعهّد "الناتو" بالعمل "كحلفاء بشكل مشترك ومسؤول من أجل مواجهة التحدّيات النظامية التي تطرحها الصين أمام الأمن الأوروبي - الأطلسي".
الولايات المتحدة لا تستسيغ أن يشاركها أحد عملية التحكّم بقواعد اللعبة الدولية
ولكن لمواجهة "التحدي" الصيني، ينخرط "الناتو" في سياسة تعاون ثنائي وشراكات منفردة مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا. من غير المرجّح أن يتطور هذا التعاون إلى توسيع نطاق منطقة عمليات الحلف، بسبب الخلافات الداخلية الناتجة خصوصاً من التحفّظ الفرنسي على اضطلاع "الناتو" بـ"دور فاعل في آسيا"، كما تذكر صحيفة وول ستريت جورنال، في 8 يوليو/ تموز 2023، إلا أن ذلك لا يَحُول دون مضي الولايات المتحدة في عملية بناء منظومة أمنية وتحالفات في آسيا ومنطقة المحيطين، الهادئ والهندي، لردع الصين. ولهذه الغاية، أطلقت، في سبتمبر/ أيلول 2021، تحالفاً يضمّها إلى كل من أستراليا والمملكة المتحدة، تحت اسم "أوكوس" (AUKUS) لتفعيل "شراكة أمنية". وأعادت الزخم، في سبتمبر/ أيلول 2022، لتحالف "الحوار الأمني الرباعي" (Quad) (تأسس سنة 2007)، الذي يضمها إلى أستراليا واليابان والهند.
لا للمبالغة؟
تستند هذه الدينامية الأميركية إلى خطاب لا يصوّر الصين بوصفها تهديداً وخطراً وحسب، بل أيضاً باعتبارها تعدّ جيشها لخوض حرب. سردية كهذه يصفها الكاتب اللبناني، جهاد الزين، في مقالة له (النهار، 4 نيسان/ إبريل 2023)، بـ"بروباغندا أميركية" من "الصعب الاقتناع" بها اليوم، إذ "كيف يمكن لدولة كبرى كالصين هي في ذروة نشاطها الاقتصادي والاستثماري في العالم كله، ولا تزال أمامها خطوات معلنة للحد من الاعتماد على الخارج (...)، كيف يمكن لها أن تأخذ بالاستعداد لشنّ الحرب؟" وتلك السردية عن "الخطر الصيني" يناقشها الأكاديمي الأميركي، كارل سيوفاكو، في مقالة له في مجلة The National Interest، في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018. وهو يميّز بين طرح متحيّز، يصوّر الصين، أمام الرأي العام الأميركي، خطراً، وطرح شفاف يروج الشراكة المجدية معها. لا ينفي سيوفاكو الحاجة لمقاربة موضوعية لما يمكن أن يشكّل فعلاً تهديداً صينياً في المستقبل. لكنه يشير إلى وقوف أطراف متحيّزة في وزارة الدفاع ممن يبرّرون زيادة الموازنة العسكرية الأميركية، إضافةً إلى "لوبي" معادٍ للصين، خلف سردية التهديد الصيني. ويعتبر أن التعظيم من شأن التهديد العسكري والاقتصادي والسياسي الذي يمثله هذا البلد، يساهم في تبرير موازنات الدفاع الهائلة في واشنطن. يحاول تحليل كل من سيوفاكو والزين عدم المبالغة في تقدير عواقب "التحدّي" الصيني من دون التقليل من شأنه.
الصين، برئاسة شي جين بينغ، ماضية نحو تحقيق "الحلم" المتمثل باستعادة "مكانتها التي تليق بها في العالم"
ولكن، ما كانت الريبة لتتجذّر في الخطاب والأداء الأميركي والغربي، لولا وجود تَحَوُّل في توازن القوى العالمي يَفْرِضه صعود الصين إلى القوة وسعيها لتأكيد زعامتها العالمية. هذا ما يشير إليه الأكاديمي الفرنسي، كلود مويير، في كتاب له (2018)، حين يخلص إلى أن "التوسّع المذهل للصين شكّل أول تحدٍّ للغرب. (أما) التحدّي الثاني الذي ينتظره، فهو تفوقها الكوني". والحال أن تفسير الخطاب الأميركي والغربي المنزعج جداً مِنَ الصين ممكن مِنْ خلال مقاربات تاريخية وجيو- اقتصادية وجيو- سياسية وجيو- استراتيجية وأيديولوجية وثقافية وقيميّة للسياسة الصينية.
"كما في التاريخ كذلك في الحاضر"
تتغذّى الخشية الغربية أولاً من تفكير صيني يروم إلى صياغة دور في الحاضر يُعِيد إلى الصين أمجادها ومكانتها وهيبتها التي عرفتها عبر التاريخ، أي حين كانت مُهَيْمِنَة وكانت الدول الأخرى بمثابة أتباع لها، كما يورد عالم السياسة والباحث الأميركي، غراهام أليسون، في كتاب له (2017). يتعلق الأمر بسرديةٍ مفادها بأن "الصين تقع تحت السماء، وهي مركز العالم وتمثل بالتالي الفضاء المتحضر الوحيد"، كما أن "الإمبراطور، ابن السماء، يحكم باسمها كملك على عامّة الناس"، وكـ"سيّد طبيعي" على الدول المجاورة الملحقة، "ودائماً باسم السماء"، كما يفسّر مويير. ومن هذا المنظور، تختزل النظرة الصينية النظام العالمي بوصفه نظاماً هرمياً، وليس قائماً على التوازن بين دول ذات سيادة ومتنافسة، كما يقول هنري كيسنجر في أحد كتبه (2014).
طيّ صفحة "قرن من الذل"
سيؤول هذا العالم الصيني إلى الزوال مع صعود الغرب إلى القوة في القرن التاسع عشر. مع الثورة الصناعية والتوسّع الاستعماري، سيهيمن الغرب على مناطق شاسعة في العالم، ويحوّل الصين إلى "قالب حلوى" تقاسمته الدول الإمبريالية. تلك الحقبة ينعتها الصينيون بـ"قرن من الذلّ"، الذي سينتهى مع انتصار ثورة الحزب الشيوعي الصيني في عام 1949. وفي نظر المسؤولين الصينيين، لم يكن هذا "الشذوذ التاريخي"، المتمثل بصعود الغرب، ممكناً لولا "ضعف الصين التكنولوجي والعسكري (بمواجهة) القوى الإمبريالية المهيمنة"، كما يذكر أليسون. من هنا، لا تستسيغ بكين نظاماً دولياً يهيمن عليه الغرب، أو على الأقل نظاماً حدّد الغرب قواعده وتتحكّم واشنطن بقواعد اللعبة فيه. وهذا ما يدفعها إلى التذكير بأنها "لم تشارك في وضع (تلك) القواعد"، كلما طالبها الغرب بالتزامها، وفق كيسنجر الذي يلفت إلى أن الصين تتوقع أن يتطوّر هذا النظام الدولي على نحوٍ تصبح فيه لاعباً محورياً، وتشارك في وضع قواعده وإعادة النظر بقواعده السائدة. وهذا بالضبط ما يتعامل معه الغرب، وتحديداً واشنطن، بتوجّس، فالولايات المتحدة لا تستسيغ أن يشاركها أحد عملية التحكّم بقواعد اللعبة الدولية. لكن الصين، برئاسة شي جين بينغ، ماضية نحو تحقيق "الحلم" المتمثل باستعادة "مكانتها التي تليق بها في العالم"، أي استعادة عظمتها وتفوّقها من جديد، وهو أمرٌ يتطلب ليس أن تصبح غنية وحسب، بل قوية أيضاً، كما يكتب أليسون. لأن الهدف النهائي للصين يتمثل في "إعادة صياغة النظام الدولي، لكن من دون إحداث ثورة فيه، والهيمنة عسكرياً على (الدول المجاورة)، وقلب توازن القوى مع الولايات المتحدة لصالحها"، بحسب مدير "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، توما غومار، في أحد كتبه (2021). وما يؤرق الغرب أكثر فأكثر، أن الصين تعزّز إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية بما يتيح لها على الأرجح تحقيق "حلمها".
تعزيز القوة الاقتصادية
تكفي التوقّعات الاقتصادية، إنْ صدقت، لفهم الخوف الغربي. في دراسته، يعرض مويير أن معطيات ترجّح أن تمثّل الصين "أكبر اقتصاد في العالم بحلول 2030"، على أن تمتلك "من دون شك، بحلول 2050، كل السمات الأساسية للقوة، ومن ضمنها العسكرية، أي ستكون بصدد خلع الولايات المتحدة عن عرش الزعامة العالمية، إذا كان لديها إرادة بذلك على الأقل". سيكون ذلك ممكناً بعد حوالى ثلاثة عقود وفقاً لمؤشّرات PricewaterhouseCoopers، التي تفيد بأن الصين ستمثل 20% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متقدّمة على الهند (15%) وعلى الولايات المتحدة (12%) والاتحاد الأوروبي (9%)، كما يورد مويير.
الوقائع التي تفرضها الصين في بحر الصين الجنوبي، تكاد تكون بمثابة فتيل حرب عالمية ثالثة
وتمارس الصين دبلوماسية اقتصادية واعدة، هدفها الوصول إلى "الموارد الطبيعية وتعزيز الصادرات بفضل تكثيف (الحركة) التجارية"، بواسطة اتفاقاتٍ بشأن إنشاء مناطق للتبادل الحر، والاستثمارات المباشرة والمساعدة على التنمية. وعلى المستوى الثنائي، تضاعف الصين من عروض "الشراكة الاستراتيجية" ضمن روحية "حسن الجوار والتعاون الودّي"، وفق مويير. ومن أبرز أدوات الهيمنة الاقتصادية الصينية، ثمّة المصرف متعدد الأقطاب، البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، إضافةً إلى مبادرة الحزام والطريق التي "تهدف إلى تطوير التجارة من أجل بناء منطقة نفوذ واسعة من حيث العلاقات التجارية والمعايير الفنية وآليات التمويل"، وصولاً إلى تكريس "الانفتاح الدولي للنظام المالي الصيني"، وفق غومار.
لعبة جيو - سياسية وجيو - استراتيجية جديدة
يتمثّل التحدّي الذي لا يمكن للغرب والأميركيين تجاهله في انعكاسات مسار التقدّم الجيو - اقتصادي للصين على الواقع الجيو-سياسي والجيو-استراتيجي العالمي. ويؤكّد أليسون ومويير وغيرهم من الباحثين على أن "الصين تستخدم (فعلاً) الجغرافيا - الاقتصادية لتحقيق أهداف جيو - سياسية". ويلاحظ أليسون أن مبادرة الحزام والطريق من شأنها تحقيق عملية "دمج لدول أوراسيا" ضمن رؤية تهدف إلى انتقال "توازن القوى الجيو-استراتيجي إلى آسيا". وهنا يستعيد الباحث الأميركي أدبيات "الجيوبوليتيك" في مطلع القرن العشرين، لا سيما مقولة الباحث البريطاني، هالفورد ماكندر، عن أوراسيا و"الجزيرة العالمية" ومنطقة "قلب العالم"، ومقولته الشهيرة التي تخلص إلى أن "من يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم". ويعتقد أليسون أنه "بحلول عام 2030، إذا تم تحقيق أهداف الصين، فإن تصوّر ماكندر بشأن مسألة الهيمنة على أوراسيا وعلى العالم يمكن أن يصبح حقيقة لأول مرّة"، على يد "عدوّ جدي كبير" للولايات المتحدة، على حد تعبيره. وهذا ما يضاعف من توجّس الغرب.
يؤكّد مويير وأليسون أن الصين مصمّمة على وضع حد للهيمنة الأميركية في منطقة آسيا، بذريعة أن الآسيويين هم الأوْلى بإدارة شؤون منطقتهم وضمان أمنها. ومعنى ذلك أن الصين تتطلع إلى إقامة نظام جديد في آسيا تكون هي محوره؛ نظام هيمنة وأمن يحقّق مصالحها. لهذه الغاية، تحاول فرض وقائع جيو - استراتيجية في بحر الصين الشرقي، حيث تدّعي هي واليابان الحقّ التاريخي في أرخبيل سينكاكو - دياويو، غير المأهول بالسكان، والذي تسيطر عليه طوكيو، ويبعد عن شمال شرق تايوان حوالي 200 كيلومتر. ويثير هذا الصراع الصيني الياباني توتراتٍ قد تتحوّل إلى صراع مسلح، نظراً إلى أهمية ذلك الموقع من الناحية الاقتصادية، إذ يتميز بوجود موارد سمكية هائلة، فضلاً عن احتمال وجود حقول نفط، ومن الناحية الاستراتيجية، إذ يقع هذا الأرخبيل على ممرّ تجاري حيوي، كما يلخّص مويير.
ولا تكتمل عناصر الهيمنة الجيو - استراتيجية من دون حل مشكلة تايوان، في نظر الصين. وبالنسبة إليها لا حلّ إلا باستعادة السيادة على تلك الجزيرة. أما الوقائع التي تفرضها الصين في بحر الصين الجنوبي، فتكاد تكون بمثابة فتيل حرب عالمية ثالثة. وتضم هذه المنطقة جزرا وأكثر من أرخبيل وهي مناطق متنازع عليها بين ست دول، من ضمنها الصين وفيتنام والفلبين. يتعلق الأمر بمواقع غير مأهولة بالسكان، لكنها محتلة عسكرية من هذه الدولة أو تلك. وهي ذات أهمية اقتصادية (موارد سمكية وحقول نفط)، كما أنها تمثل موقعاً استراتيجيا، مفيدا للتجارة وللأمن.
يتخوّف الغرب من أنه في حال تحوّلت الصين إلى قوة مهيمنة عالمياً، قد تنجح في فرض نموذجها
بدأت المشكلة مع تحديد الصين "بشكل أحادي الجانب لخط القطاعات التسعة غير المعترف به في القانون الدولي"، إذ "تدعي الصين الحق التاريخي في 80% من بحر الصين الجنوبي، الذي تعتبره تقريباً بحراً داخلياً". وقد وضعت الصين إنشاءات نفطية في المياه المتنازع عليها، وسيطرت على بعض الجزر المغمورة بالمياه وقامت بتجفيفها لاستخدامها، وأنشأت جزراً اصطناعية، وشيّدت قواعد عسكرية على بعد بضعة كيلومترات من شواطئ جنوب شرق آسيا، وفق غويير. تتعامل الصين إذاً مع بحر الصين الجنوبي بوصفه "بحراً مغلقاً"، وليس "بحراً مفتوحاً"، وهذا ما يرى فيه الغرب طعناً بحرية الملاحة في المياه الدولية. دافعان أساسيان يتيحان فهم التصرّف الصيني، كما يروي أليسون: أولاً، مضاعفة المكاسب الاقتصادية، إذ إن التحكم بهذه "المنطقة سيمنح الصين تأثيراً أكبر على العمليات التجارية التي (تمر فيها) والتي تقدر قيمتها بـ 5.3 تريليونات دولار"؛ ثانياً، ضمان الأمن في مواجهة سفن التجسّس الأميركية بالقرب من حدود الصين، أي احتواء ما تعتبره هي تهديداً أميركياً.
القدرات العسكرية في خدمة مشروع الهيمنة
تواجه العلاقات الأميركية-الصينية إذاً "معضلة الأمن". تطوّر بكين قوتها خوفاً من تفوّق قوة واشنطن. والثانية ترد بمزيد من تعزيز قدراتها العسكرية. هكذا، تدخلان في دوامة من الأفعال وردات الفعل اللامتناهية. ولا تتردد واشنطن في التعبير عن قلقها من أداء الصين العسكري. هذا ما تعكسه روحية التقرير السنوي الذي تقدمه وزارة الدفاع الأميركية إلى الكونغرس، بعنوان "التطورات العسكرية والأمنية المتعلقة بجمهورية الصين الشعبية" أو ما يعرف بـ"تقرير (حول) القوة العسكرية الصينية". وخلاصة ما يقترحه هذا التقرير، ولا سيما في نسختي 2021 و2022، أن الصين تطور قدراتها العسكرية في المجالات كافة، من التجسّس والهجمات السيبرانية، مروراً بالقيادة والانتشار، وصولاً إلى الأنظمة الدفاعية لمواجهة الصواريخ البالستية وتدمير الأقمار الصناعية المعادية…، وذلك لأنها تعتبر أن مراكمة قوتها الوطنية الشاملة، ومن ضمنها القوة العسكرية، هي مسألة "ضرورية لتهيئة الظروف اللازمة (لها) من أجل الدفاع عن تفضيلاتها على نطاق عالمي".
قوة قارّية وبحرية
والأميركيون والغربيون عموماً يتلقون بتحفّظ خطاب بكين بشأن امتلاكها "حدّا أدنى من ترسانة الردع". فلا يمكنهم تجاهل أن الصين تُعدّ الدولة "الوحيدة بين الدول النووية الخمس (دائمة العضوية في مجلس الأمن) التي لم تكشف أي شيء" بشأن واقع ترسانتها، لا سيما أنها أقدمت على إصلاح جيشها وتحديثه وتطوير إمكاناته التقنية، لكي يصبح جاهزاً لخوض حرب إقليمية، كما يذكر الدبلوماسي والجامعي الفرنسي، بيار بولير، في كتاب له (2019). وما يثير قلق الغرب يتعلق بالقفزة النوعية التي حقّقتها الصين مع تطويرها "قوتها العسكرية البحرية (باتت قادرة على تنفيذ عمليات) في أعالي البحار، وهو ميدان جديد (للصين التي هي) قوة قارّية قبل أي شيء". يتعلق الأمر بـ"غوّاصات نووية مهاجمة وحاملة طائرات وألغام بحرية وصواريخ مضادّة للسفن الحربية…"، وكلها جزء من قوة عسكرية "قادرة أولاً على منع البحرية الأميركية من الاقتراب من الشواطئ الصينية"، وفق بولير.
التناقض الأيديولوجي والثقافي والقيمي
صعود الصين إلى القوة واحتمال تحوّلها إلى الدولة العظمى الأولى في العالم يثيران "هستيريا" أميركية وغربية، ليس لأن ثمّة مصالح اقتصادية وأمنية على المحكّ، بل كذلك لأن منظومة القيم الليبرالية التي يدافع عنها الغرب، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات الفردية وحرية التعبير، ستكون مهدّدة. يُقاس التحدّي الصيني هنا بما تحمله الصين الشيوعية من بنى أيديولوجية وثقافية وقيمية نقيضة للبنى الغربية. وفي هذا المضمار، يقول مويير إن "هرمية القيم" الصينية "ستبقى مختلفة جداً عن تلك الغربية": "دولة قوية بدلاً من الديمقراطية الليبرالية، حكم الجدارة بدلاً من تداول السلطة، احترام السلطة بدلاً من حرية الفرد، انسجام وإجماع بدلاً من مجابهة ونقاش، دعم الأسرة والمصلحة الجماعية بدلاً من حقوق الأفراد".
مضى أكثر من عقد على انتشار تحذيراتٍ من خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة نتيجة التنافس الأميركي - الصيني
انطلاقاً من ذلك، يتخوّف الغرب من أنه في حال تحوّلت الصين إلى قوة مهيمنة عالمياً، قد تنجح في تفرض نموذجها، أو ما يسمّى منذ 2004 بـ"إجماع بكين" المختلف عن "إجماع واشنطن" (1989)، في إدارة العلاقات مع الدول الأخرى. من ثوابت الأميركيين أن "الإصلاحات الليبرالية (هي) شرط للاستدانة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بدعم من وزارة الخزانة الأميركية"، وفق مويير. أما "إجماع بكين" فهو بمثابة "نموذج مضادّ" يقوم على "عدم تدخّل الصين في الشؤون الداخلية" للدول النامية، و"دعم مالي سخّي لها من الصين". معادلة كهذه تصبّ في صالح الأنظمة الاستبدادية. وهذا ما يحذّر منه الكاتبان، مايكل بيكلي، هال براندز (2023)، اللذان يصوّران الخطر الصيني من منظور "الجهود الحثيثة" التي يبذلها النظام الشيوعي من أجل "جعل العالم مكاناً آمناً للاستبداد، وإفساد الديمقراطيات وزعزعة استقرارها".
حرب صينية - أميركية يمكن تجنّبها... ولكن؟
في المحصلة، يشكل الخطر الصيني الوجه الآخر لسؤال يهزّ واشنطن، ويطرحه ويعالجه غراهام أليسون في كتابه، ومفاده: هل يمكن أن تصبح الولايات المتحدة القوة العظمى الثانية في العالم بعد الصين؟ وعليه، وبما أن الأميركيين لن يتقبّلوا بسهولة فكرة أن دولة أخرى ستتفوّق عليهم اقتصادياً، وخصوصاً الصين، وفق أليسون، فهل ستشنّ الولايات المتحدة حرباً على الصين بهدف لجم صعودها؟
في الواقع، مضى أكثر من عقد على انتشار تحذيراتٍ من خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة نتيجة التنافس الأميركي - الصيني. يحبّذ كيسنجر تفادي سيناريو كهذا من خلال معادلة تجمع بين "توازن القوى ومفهوم الشراكة في آسيا". ويقترح أليسون خريطة طريق لتجنّب ما يسميه "فخ ثوسيديدس"، نسبةً إلى المؤرّخ الإغريقي الذي كتب عن الحرب بين إسبرطة وأثينا في اليونان، أي تجنّب الحرب بين أميركا بوصفها قوة مهيمنة في العالم بعد 1945، والصين بوصفها قوة صاعدة منافسة في القرن الواحد والعشرين. يدرك أليسون بأن حربا كهذه أكثر من محتملة، لكن يمكن تفاديها إذا أحسنت كل من واشنطن وبكين انتهاج سياساتٍ تؤدّي إلى ضمان المصالح الجوهرية لكل منهما من دون الحاجة إلى الحرب. صحيح أن الأكاديمي الفرنسي، جان-بيار كابوستان (2021)، يلاحظ، مع أليسون، أن الهيمنة الصينية مرشحة للحلول محل الهيمنة الأميركية في العالم، لكنه يلاحظ أيضاً وجود مَيل صيني إلى عدم استخدام العنف من أجل تحقيق الأهداف الجيوسياسية. كذلك، يروج رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق، كيفن رود (2022)، لصيغة تعايش على قاعدة "المنافسة الاستراتيجية الموجهة" بين واشنطن وبكين، اللتين يمكنهما تجنب الصدام العسكري إذا توصلتا إلى تفاهم بشأن الخطوط الحمر التي لا يجوز تجاوزها، مع التزام كل منهما بعدم التصعيد.
في المقابل، يتناول الباحثان، ليانشاو هان وبرادلي ثاير، المسألة بنبرة أكثر حدّة من الآخرين. ويتوقعان صداماً لا مفرّ منه بين بكين وواشنطن، سواء من خلال حرب باردة أو مواجهة عسكرية، بعدما تغيّر توازن القوى لصالح الصين التي تمثل أيديولوجية نقيضة لأيديولوجية العالم الحرّ الذي تقوده أميركا. وهما يشدّدان على ضرورة أن تبذل الولايات المتحدة كل ما بوسعها من أجل الحفاظ على مكانتها الدولية وعلى النظام العالمي الحر، ويؤكدان أنها قادرة على إلحاق الهزيمة بالصين. فهل ينمّ هذا التفكير عن قلق مبالغ فيه حيال الصين أم أنه يعبّر بطريقة غير مباشرة عن ميل أميركي وغربي نحو الاستعداد لقرع طبول الحرب، بانتظار البيان رقم واحد؟
المراجع:
Carl Ciovacco, "Understanding the China Threat", The National Interest, November 29, 2018; Claude Meyer, L’Occident face à la renaissance de la Chine. Défis économiques, géopolitiques et culturels. Paris, Odile Jacob, 2018; Graham Allison, Destined for War. Can America and China Escape Thucydides's Trap، New York, First Mariner Books, 2017; Henry Kissinger, World Order, New York, Penguin Books, 2014; Jean-Pierre Cabestan, Demain la Chine: Guerre ou paix?, Paris, Gallimard, 2021; Kevin Rudd, The Avoidable War: The Dangers of a Catastrophic Conflict between the US and Xi Jinping's China, New York, PublicAffaires, 2022; Lianchao Han, Bradley A. Thayer, Understanding the China Threat, London, Routledge India, 2022; Michael Beckley, Hal Brands, “China’s Threat to Global Democracy”, Journal of Democracy, vol. 34(1), January 2023, pp.65-79; Pierre Buhler, La Puissance au XXIe siècle, Paris, CNRS Editions, 2019; Office of the Secretary of Defense, “Annual Report to Congress: Military and Security Developments Involving the People’s Republic of China”: 2022, 2021.