الخطوات العمليّاتيّة في بيان بكين الفلسطيني
بقراءة البيان الصادر عن اجتماع الفصائل الفلسطينية في بكين، في 22 يوليو/ تمّوز الجاري، يمكن القول إنّه يتضمّن نوعَين من القرارات. الأول مبادئ عامة، مثل حقّ المقاومة وإدانة العدوان، والثاني قرارات عملية أو (عملياتية)؛ أي تتضمّن خطوات عمل مُحدّدة، ويصبح السؤال بشأن هذه المبادئ (العملياتية): هل هناك جدّية لتنفيذها؟ وثالثاً، هناك بنودٌ مفقودة؛ البند الأكثر أهمّية الذي افتقده اتّفاق بكين هو كيف يتمّ التفاوض بشكل مُوحّد لأجل وقف إطلاق النار في غزّة؟
الخطوات العملية، بحسب ترتيب ورودها في البيان الصادر عن الاجتماع، الذي عُقِدَ بعد أن أُجِّل سابقاً، وجمع الفصائل الفلسطينية لتحقيق الوحدة بينها: أولاً "تشكيل حكومة وفاق وطني مُؤقّتة بتوافق الفصائل الفلسطينية وبقرار من الرئيس بناء على القانون الأساسي الفلسطيني المعمول به". والخطوة الثانية، ووردت في البند ذاته الخاص بالحكومة، وتقوم على "التمهيد لإجراء انتخاباتٍ عامة بإشراف لجنة الانتخابات الفلسطينية المركزية بأسرع وقت وفقاً لقانون الانتخابات المُعتمَد". أما الخطوة العملياتية الثالثة، "وإلى أن يتمّ تنفيذ الخطوات العملية لتشكيل المجلس الوطني الجديد وفقاً لقانون الانتخابات المُعتمَد، ومن أجل تعميق الشراكة السياسية في تحمّل المسؤولية الوطنية ومن أجل تطوير مؤسّسات منظّمة التحرير الفلسطينية، تم تأكيد الاتفاق على تفعيل وانتظام الإطار القيادي المُؤقّت المُوحّد للشراكة في صنع القرار السياسي، وفقاً لما تمّ الاتفاق عليه في وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني المُوقّعة في 4 أيّار 2011".
المعضلة الأساسية التي تعوق تفعيل الوحدة الوطنية الفلسطينية هي غياب قرار سياسي حقيقي فلسطيني داخلي
الترتيب العملي الواقعي لتنفيذ هذا الاتفاق هو اجتماع الإطار القيادي المُوحّد، ثمّ مناقشة تشكيل الحكومة في هذا الإطار، ثمّ قرار الرئيس بتشكيلها، ثمّ الانتخابات. أسهل ما في هذا الاتفاق وأصعبه أن يجتمع الإطار القيادي المُؤقّت، الذي يجمع قادة الفصائل الفلسطينية، وهو البند العملي الأول الواقعي، فيجلس قادة الفصائل مع بعضهم، وتحديداً الفصائل الفاعلة، وفي مُقدّمتها الحركات، فتح وحماس والجهاد الإسلامي، وهو أمر سهل من زاوية أنّه لا يتطلّب أكثر من تحديد موعد، والذهاب إلى اللقاء في القاهرة، أو الجزائر، أو أيّ مكان آخر، وبحضوريْن رمزيين، صيني وعربي. ومثل هذا الاجتماع، لو تكرّر مرة واحدة شهرياً، سيكون نقلةً نوعيّةً في الحياة الفلسطينية.
لكن هذا، من زاوية رؤية أخرى، يبدو أصعب القرارات، لأنّه يصطدم بأمور عدّة، أولها آلية اتّخاذ القرار الفلسطينية، فالهيئات الفلسطينية الحالية، وهي التي لا تتضمّن جهاتٍ بينها اختلافات حقيقية، لا تجتمع، فمثلاً اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير نادراً ما تجتمع اجتماعاً نظاميّاً حقيقيّاً برئاسة رئيس المنظّمة محمود عبّاس، وهذا ليس جديداً، فمنذ سنوات، ظهرت "بدعة" الاجتماعات التشاورية، التي كان يرأسها الراحل صائب عريقات بصفته أمين سرّ اللجنة التنفيذية، من دون الرئيس، وحاول أخيراً استئنافها خلفه حسين الشيخ. وبحسب بعض المعلومات المتوفّرة، لا توافق فصائل على هذه الصيغة التي تجعل الاجتماعات مُجرّد خبر صحافي بلا صلاحيات. الأمر الثاني الذي يصطدم به عقد هذا اللقاء، الأساس لأيّ مرحلة انتقالية، أنّ له معنى سياسيّاً أساساً، هو تغيير المواقف وتغيير الرهانات، من الرهان على نهاية الحرب في غزّة ذاتياً من دون وفاق فلسطيني، ووجود عملية سياسية تجري لترتيب الوضع لاحقاً، في سياقات ترتيباتٍ إقليميةٍ، تتضمّن المزيد من التطبيع العربي الإسرائيلي، في مقابل تسوية للقضية الفلسطينية. وهو الرهان الموجود حالياً، حيث لا رغبةَ لدى القيادة الفلسطينية الرسمية، في تولّي دور قيادي في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزّة، إذ يعني هذا أن يصبح التنسيق والوحدة مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي عملية فعلية ويومية. لو انعقد فعلاً الإطار القيادي المُوحّد، يمكن أن يصبح هذا الإطار هو الذي يفاوض باسم الشعب الفلسطيني، وهذا سيعطي قوّةً هائلةً للفلسطينيين، ولقيادتهم، التي ستتعزّز شرعيتها بأنّها تتحدّث باسم الفلسطينيين كلّهم، ولكن شرط هذا الأمر أن تصبح القيادة جماعية، حتّى لو في المستوى الذي كانت عليه قبل "أوسلو" (1993).
لقد حصلت الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي، والنظام الإقليمي العربي، على تسعة أشهر منذ بداية الحرب للتأثير في الحدث، وكانت النتيجة محدودة، ويمكن للقيادة الفلسطينية الانطلاق من هذا الواقع لتحقيق الوحدة الفلسطينية الفعلية. وإذا اجتمع هذا الإطار، وفُعّل جدّياً، تمكن مناقشة باقي القضايا الواردة في بيان بكين، مثل حكومة الوحدة الوطنية، وإجراء انتخابات، سواء للمجلس التشريعي أو الوطني أو الرئاسة، أو اختيار واحدة من هذه الانتخابات، أو حتّى تأجيلها، لكن ضمن تصوّر وفاقٍ وطني وقرارٍ جماعي.
المعضلة الأساسية التي تعوق تفعيل الوحدة الوطنية الفلسطينية، غياب قرار سياسي حقيقي فلسطيني داخلي، فمن الدقيق أنّ للمواقف الدولية والإقليمية تأثيرها في ما يحدُث، وستسعى قوى دولية، مثل الولايات المتّحدة وإسرائيل، لمنع الوحدة، وقد تستقوي أطراف بإيران، أو غيرها، لعرقلة الوحدة، لكنّ القرار السياسي ونهج التفكير بعيداً عن التفرّد باتخاذ القرار هو مفتاح التغيير.
القرار السياسي الحقيقي الداخلي، ونهج التفكير بعيداً عن التفرّد في القرار، هما مفتاح الوحدة الوطنية والتغيير فلسطينياً
من دون آلية قرار جماعية وحدوية، لن تكون أي حكومة جديدة حكومة وفاق، وستكون استنساخاً للحكومات منذ الانقسام عام 2006. فالحكومات باتت نوعين؛ إمّا حكومة الرئيس، بمعنى أنّها لا تعكس تباينات القوى السياسية الفلسطينية بل تعكس أداةً تنفيذيةً محدودةَ الصلاحيةِ ضمن نظام سياسي محكومة بسلطةٍ فردية، أو هي حكوماتٌ من دون تعاونٍ من القاعدة التنظيمية والسياسية للفصائل، كحكومة "حماس" عام 2006، التي لم يتعاون معها الموظّفون والكوادر، الذين كانوا في السابق ضمن حكومات حركة فتح، أو كما حدث بعد تشكيل حكومة رامي الحمد الله في 2014، من عدم تعاون عناصر "حماس" ومسؤوليها في غزّة مع هذه الحكومة. كما أنّ العوائق التي منعت انتخابات 2021، وذُكِرَت لتبرير إلغائها مثل موضوع الانتخابات في القدس، ما زالت قائمة، فضلاً عن استحالة الانتخابات في ظروف الحرب.
لذلك، ربّما يجدر بالقوى السياسية والمجتمع المدني الفلسطيني، الضغط حتّى يُتَّخذ قرارٌ فعلي بالاتجاه إلى الوحدة، والضغط لانعقاد "الإطار المُؤقّت" بوابةً لحلّ ونقاش مُجمل القضايا الأخرى، ووضع توافقات واقعية وحقيقية لتفعيل منظّمة التحرير، وتطوير أطر العمل الفلسطينية. وأول ما يجب أن يعمل عليه هذا الإطار المُوحّد فرض التفاوض بشكل مُوحّد لإنهاء الحرب في غزّة، والعمل بشكل مُوحّد من أجل وقف التدهور في غزّة والضفّة الغربية.