"الخوابي"... أن تطبخ مسلسلاً تلفزيونياً
يعرِض تلفزيون "العربي 2" المسلسل الأردني "الخوابي"، الذي لمّا شوهد على غير فضائية عربية، في موسم رمضان 2020، بان أن حلقاتِه أكثر من عدد أيام الشهر الكريم، فطال عرضُه أسبوعا إضافيا (!). ما دلّ على أن مخرجه محمد علوان وجهة الإنتاج (مؤسّسة الحجاوي للإنتاج والتوزيع الفني) لم يجدا أنهما مضطرّان إلى الالتزام بإيقاع الثلاثين حلقة، فتمطْمَطَ المسلسل إلى 38 حلقة. قد لا يعدّ هذا فعلا حسنا، سيما وأن التكثيف والحذف والإيجاز مواهبُ تُسعف العمل الفني (والأدبي بداهةً) بجمالٍ ورهافة. وإنْ يلزمُ هنا التمييز بين الطول والتطويل، فليس كل قليل الصفحات من نصوص الأدب جميلا لأنه قليل الصفحات، وليس كل كثير الصفحات مذموما لأنه هكذا. أما "الخوابي" فقد انبنى، في سلالِمه الدرامية، على توليد قصصٍ من قصص، وحكاياتٍ من أخرى، تتابعت في خطوطٍ متوازية، حيث ازدحام الحوادث والوقائع والمفارقات والمصادفات التي سارت في إيقاعٍ اتّصف، للحقّ، بمقادير وفيرة من التشويق، وبزخمٍ من توتراتٍ وتعقيداتٍ تشابكت، وأظنّها نجحت في شدّ المُشاهد الذي انجذب في الحلقات الثلاث أو الأربع الأولى إلى هذا المسلسل، ثم صار عليه أن "يطوّل بالَه" من أجل أن تتفكفك العُقد، وتصل الحكاية (والحكايات التي في تضاعيفها) إلى خواتيم سعيدة، وأخرى مفتوحة.
تشتمل حدّوتة "الخوابي" على عناصر التشويق التقليدية عن القوة والتجبّر، عن الحبّ والحنان، عن الجشع والحقد، ... ولك أن تقول إن ثمّة "مصنوعية" في طبختِه عن هذا كله، لافتٌ فيها أمران: أن كاتبته، وفاء بكر، استوحَت حبكاتٍ للحكايات الثلاث في المسلسل، المتوازية في خطوطها، والتي تشكّل اللُّحمة الجامعة للحكاية الأساس، من ثلاثة أعمالٍ عالميةٍ كبرى: روايتي ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" وفيكتور هوغو "أحدب نوتردام" ومسرحية شكسبير "تاجر البندقية". تقع على شخصياتٍ (وخيوطٍ) من هذه النصوص الشهيرة: العاشق العجوز الذي لا يُغادره حبُّه القديم، فيهجُر البلدَ إلى بلد محبوبته التي مات زوجها. .. المُرابي الذي يبتزّ من يقدّم لهم الديون، ويساوم، ويحاول كسر خصومه بهذا وغيره. .. المحبّ الأحدب الظهر الذي يفيض بالحنان على محبوبته الجميلة الثرية التي تُبادله الحب بعد شيءٍ من التمنّع. نجحت كاتبة العمل في الاستيحاءات التي توسلّتها، بحدودٍ ظاهرة، من هذه الحكايات الحاضرة هناك في تلك الروايات. ونجحت أيضا في الأمر الثاني، أن لا يتعيّن زمانٌ معلومٌ لمجرى حكايات المسلسل. أنتَ لا تدري في أي زمنٍ كل هذا الذي تشاهد. لا إشارة من أي نوعٍ، وأي مستوىً، إلى أي فضاءٍ زمني، تاريخي. لا يبدو أنه الراهن الذي نعيش، فلا سيارات ولا هواتف ولا حواسيب ولا ساعات ولا... كما أن المسلسل لا يدلّك على أي جغرافيا عربية شهدت هذه الوقائع. وليس من شاهدٍ على صحّة ما انكتب أن حوادث "الخوابي" ووقائعه في الريف الفلسطيني. هذا غير صحيح، ولا يدلّ عليه أن اللهجة التي يتحدّث فيها أبطال المسلسل فلسطينية، وإنْ ثمّة تبايناتٌ في بعض لهجات بعضهم، تؤشّر إلى أردنية بعضها ذات التشابه الكثير مع اللهجة الفلسطينية. ولكن هذا لا يعني أن المسلسل معنيٌّ أساسا بتصوير حياةٍ اجتماعيةٍ في ريف فلسطيني أو أردني. هذا خطأ وكلامٌ متعجّل من عنديّات أصحابه.
إنها "طبخةٌ" دراميةٌ، تحرّرت من تعيين الزمان والمكان. اعتنت بمشاهد ريفٍ وسهولٍ وحقولٍ وبحيرات، مع عتاقةٍ ظاهرة، بالتوازي مع انشغالٍ بقلقٍ مقيمٍ في أغلب شخصيات العمل المتنوّعة الهموم. ولا أحسبُه سؤالا صائبا، أو في محلّه، إنْ كان "الخوابي" مقنعا في جريان وقائعه، ذلك أنه، في هذا الموضع، ليس كذلك تماما، فالمصادفاتُ وفيرة، والنمطيّة في تكوين شخصياتٍ عديدةٍ تُضعف "إقناعنا" بها، كما أن نجاة الطيّبين من الغدر، وشفاءَهم من محاولات القتل بعد طول مرضٍ وغيبوبات، وأشياء من هذا القبيل وغيره، لا تسوّغ ذلك السؤال. الأجدى ربما هو السؤال عمّا إذا كان هذا المسلسل مسلّيا في خراريفه وحدّوتاته، في الصنعة التي انطبخ بها ما أخذه من ماركيز وشكسبير وهوغو، وترييفِه في بيئةٍ عربيةٍ تقليدية. أقول إنه كان كذلك، مسلّيا، ومواضع الإملال فيه ليست كثيرة، وإنْ فاضت في الحلقات الخمس الأخيرة خصوصا. على أن عامل النجاح الأقوى أداءُ جمعٍ من الفنانين الذين احتشدوا فيه، وبينهم نجوم، المخصرمون محمد العبادي وعبير عيسى وحسن أبو شعيرة، والشاب المجدّ محمد الجيزاوي، وكذا إياد نصار وسهير فهد ومحمد الضمور وزملاؤهم. .. في الأول والأخير، تهانينا.