الدراما المصرية والسياسة .. فشل في قلب الحقائق
لم يشهد السباق الرمضاني في باب الدراما المصرية موسماً أمنياً، بامتياز، مثلما شوهد هذا العام، حين رمت السيناريوهات بحقائق التعامل السّياسي مع التّاريخ القريب، تزييفا وتوجيها، إلى الجمهور، محاولة منها لتغيير الوقائع وترسيخ قراءة السلطة لكرونولوجيا الأحداث، على الرغم من معاكسة الواقع له وكلّ الشواهد. اجتمع هذا في مسلسلين، بصفة خاصة، هما "هجمة مرتدّة" و"الاختيار 2". لخّصت الأجهزة الأمنية المصرية التي سيطرت، في الأعوام الأخيرة، على شركات الإنتاج التلفزيوني، من خلالهما، رؤية السُّلطة، في البلاد العربية، للحياة السياسية التي رسمت تفاصيلها، بالكامل، في فترات حرجة. لكن، ترسيخاً لها في الذاكرة، إذا حدث ما يربك تلك الرؤية، ترسم مخيّلة جديدة تقنعك، إن كنت شاهداً على الأحداث، بل كنت أنت الفاعل الأساس فيها، بأنّ ما تتحدّث عنه هو ما حدث فعلاً، وأنّ ما قامت به يصب في مصلحة المواطن، تماماً مثلما يحدث في باب السياسات العامّة الفاشلة، على الصعد كافة، وإن جاءت لتفقره، وتجعل منه مسكيناً، بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، في بلاد العرب.
يحتاج الأمر، لفهم ما يحدث، الرجوع إلى الوراء، شيئاً ما، حين كانت الدراما العربية تتمتّع بفسحة من نقد الواقع لنشاهد، وقتها: "ضيعة ضايعة"، "الهروب"، وفي السينما "عسل أسود"، أو نتمتّع بمسرحية قمّة في النقد اللاذع للوضع العربي على غرار "كاسك يا وطن" للثنائي محمد الماغوط ودريد لحّام، تأليفاً وتمثيلاً. لكن، الآن، مع ما أنتجته الردّة عن الربيع العربي، بموجتيه، من تراجع حقيقي للحرّيات وللنقد، وصل بنا الأمر إلى مقصّ الرقيب، بداية، ثم، الآن، وبكلّ تبجح، توجيه للسيناريو والإشراف على إنتاجه، مع تجنيد الممثلين لأداء أدوار ملؤها الكذب والدجل على المشاهد.
شكّلت خسارة الأنظمة معركة الإعلام البديل هاجساً لم تتمكّن من تجاوز تداعياته إلا بمقاربتين: الرقابة الرقمية والتحكّم في منصّات بثّ المحتويات
على الرغم من ذلك، ثمّة ملاحظة مهمّة، أنّ الصورة النمطية للثقافة السياسية التي عملت تلك الأعمال الفنّية على صنعها، ثم غرسها في لاشعور المشاهد العربي، في فترة تلك الفسحة من إمكانية النقد، هو توفّر فرصة أن تنتقد، ترفع صوتك بالإشارة إلى مظالم، فساد أو بعض المشكلات الاجتماعية ذات الصلة بمقاربات الحكم، لكن ليس من الدائرة الحاكمة أو المتصلة بها، مباشرة، لأنّ ذلك مُتاح ومسموح لهوامش النظام الحاكم أو النخبة التي تعمل لصالحه ومتعلّقة به استفادة وفساداً.
تبعاً لذلك، تطوّرت الأمور إلى أن وصلنا إلى معركة الإعلام البديل التي خسرتها السُّلطة، لتقرّر، بعدها، التحكّم في التكنولوجيا الرقمية، بحجب مواقع إلكترونية، بإعمال المقص في المطبعة، بالمنح الأمني المُشدّد، جدّاً، لترخيص النشر أو إنشاء المواقع الإخبارية الإلكترونية، بل بالعمل، أيضاً، على توزيع "سكريبت" على مقدّمي الحصص الإخبارية، والنشرات والبرامج الحوارية، ليكون حديثهم، كلّه، موجّهاً، متحكّماً فيه، ومتمحورا حول ما تريده السُّلطة من التركيز على قضايا محدّدة بعينها، وبتناول لا يخرج عما تريده من خطّ تحريري استبدادي وشمولي.
شكّلت خسارة الأنظمة معركة الإعلام البديل هاجساً لم تتمكّن من تجاوز تداعياته إلا بمقاربتين: الرقابة الرقمية، ببرمجيات التجسّس والحجب، إضافة إلى التحكّم في منصّات بثّ المحتويات، من خلال الاستحواذ على القنوات، وشركات الإنتاج الدرامي، وصولاً إلى تشكيل الأفكار الدرامية (الخطوط العريضة والسيناريوهات) من غرف الاستخبارات، وتحويلها إلى مسلسلات رمضانية تصحّح، من خلالها، كما تقول، مسار التاريخ، وتغرس ثقافة سياسية جديدة، مضمونها الأول والأخير، بل والدائم، وفق رأيهم، أنّ الدولة لا توجد إلاّ بهم ولهم، ومن دونهم خراب الدنيا، والبلاد، والعباد.
الدراما لن تتمكّن من قلب الحقائق، أو أن تعارض ما شوهد من جرائم بشعة على شاشات القنوات، مباشرة، خصوصاً بالنسبة لجريمة فضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة
لكن، بقدر ما كانت الردود على مضمون رسائل المسلسلين "الاختيار 2" و"هجمة مرتدّة"، بالذات، متجهة نحو انتقاد الكتابة المستقطبة للتاريخ ولحركية الأحداث التي ما زالت، في حركيتها ساخنة، فإنّ ما يجب التوقف عنده حقائق ثلاث: تشير الأولى إلى سذاجة من يعتقد أنّ التاريخ يمكن أن يغيّره مسلسل، وإن توفّرت له كلّ الإمكانات من سيناريو، وتمويل كبير، وممثلين من الصف الأول، لأنّ الحقائق المثبتة تبقى شاهدةً على أنّ ما حدث قبل الربيع العربي، وفي أثنائه وبعده، لم يكن محض مؤامرة استخباراتية أجنبية على مصر وبلاد العرب، وإن وُجدت، لأنّها من صميم المنافسة في العلاقات الدولية، كما أنّ ميداني رابعة العدوية والنهضة، في القاهرة، شهدا صيف عام 2013، في أثناء فض الاعتصامين فيهما، قتلاً مع سبق الإصرار والترصّد إزاء عُزّل وأصحاب قضية ومعارضي رأي.
هذا على المستوى الشكلي. أمّا على المستوى الدرامي، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي، وهي نقطة قوة الإعلام البديل في عرض الموقف الآخر المسكوت عنه، لم تتوقّف عن التنديد، حلقة بعد حلقة، بمضموني المسلسلين في سردهما كرونولوجيا الربيع العربي والأحداث المرتبطة بانقلاب 3 يوليو 2013، بل إنّ كلّ الحقائق والشواهد، من تقارير دولية وبرقيات مسرّبة ("ويكيليكس" أنموذجاً)، إضافة إلى مذكّرات بعض صنّاع تلك الأحداث (هيلاري كلينتون أو أوباما، مثلاً)، تناقض، جميعها، تلك السردية وتدحضها من الأساس. وحتى مع حصرية العرض للرأي الواحد، وشحذ البلاتوهات الحوارية لعرض ما يساعد تلك المشاهد الدرامية على الرسوخ في العقل الباطن للمشاهد المصري والعربي، على العموم، فإنّ الدراما لن تتمكّن من قلب الحقائق، أو أن تعارض ما شوهد من جرائم بشعة على شاشات القنوات، مباشرة، خصوصاً بالنسبة لجريمة فضّ الاعتصامين في ميداني رابعة العدوية والنهضة.
السياسة العامة الفاشلة، على مدار عقود، لا يمكنها أن تنتج إلا ضعفا يكبر مع الوقت، ليصبح هيكليا متمكّنا من جسم الأمة
من ناحية ثالثة، هل يمكن للدراما أن تعارض حقيقة أنّ الفشل الاقتصادي وفشل التسيير السياسي لقضايا البلدان العربية هما ما أضعفا مناعة العالم العربي، ليصبح مستهدفاً من استخبارات العالم، برمته؟ بل إنّ ذلك الفشل، بإقرار المؤسّسات الدولية، على الصعد كافة، مضافاً إليه التصحير الشامل للحياة السياسية هو ما فتح الباب واسعاً أمام ذلك الضعف الهيكلي للعالم العربي، وجعل منه لقمة سائغة للاستخبارات التي تعمل على الدفاع عن مصالح بلدانها ومصالح الرأسمالية العالمية، والتي برزت، بشكل واضح، مثلاً، في ملف غاز شرق المتوسط، وكيف أنّ الكيان الصهيوني، وتركيا، واليونان، وقبرص، فازوا على طول الخط أمام تقاعس بلدان عربية عدة، لها حصة الأسد، في الدفاع عن مناطقها الاقتصادية الخالصة، والحدود البحرية، والمخزون الغازي - النفطي الضخم في شرق المتوسّط.
طبعا، لسنا سُذّجاً حتى نبني واقعنا الحالي، على ما فيه من بؤس، على أساس نظرية المؤامرة التي تحاول تلك الأعمال الدرامية تقديمها على شكل حقائق، لأنّنا نعرف، حقّ المعرفة، أنّ المقدّمات تؤدّي إلى النتائج نفسها. ولذلك، فإنّ السياسة العامة الفاشلة، على مدار عقود، لا يمكنها أن تنتج إلا ضعفا يكبر مع الوقت، ليصبح هيكليا متمكّنا من جسم الأمة، بل، كما وصفه عبد الرحمن الكواكبي، يحمل صفة طبائع، يجب أن تتوفّر ظروف موضوعية، بالمعنى الذي يتحدّث عنه اليساريون في أدبياتهم، لتغييرها نحو الأحسن، بعد القضاء على مكامن الضعف، قضاء مبرماً ونهائياً.
المستقبل يصنعه الواقع وليس مخيلة ممثّلين ولا دراما تُصرف عليها أموال الأمّة، وتريد تزييف مسار الماضي
بديهي، أيضاً، الاعتقاد أنّ الدراما تتمكن من تغيير حقائق أنّ ثمّة ضعفا متمكّنا من جسم الأمّة، وأنّ الطّريق الأيسر لنشر الأمل والعافية في ذلك الجسم هو التشخيص الصحيح للمرض، والتفكير التوافقي في المسببات، ثم وصف العلاج الشافي ومراحل تعافي الجسم العربي، شيئاً فشيئاً، منه.
لم تكن مصادفة أن تنتهي تلك الدراما، في حلقاتها الأخيرة، على وقع إرادة فولاذية من شباب عزّل من أرض الشرف العربي، القدس وفلسطين، لتدمّر، بالكلية، ذلك البناء الدرامي، وكأنّ الواقع، الحقائق والتاريخ الحقيقي أدوات ثانوية في دحض السيناريوهات والعروض التلفزيونية من حوارات وضيوف/ ممثلين كانوا شهود زور، بل أضافت إلى ذلك كلّه رؤى للحلّ لقضية فلسطين وللضعف العربي اللذين لا يمكن الوصول إليهما إلاّ بعد تعافي جسم الأمة بالعلم، بالحكم الراشد، بسياسة عامة ناجعة، وبالتوافق بين أبناء الأمة، كلهم، على أن المستقبل يصنعه الواقع وليس مخيلة ممثّلين ولا دراما تُصرف عليها أموال الأمّة، وتريد تزييف مسار الماضي، وتأمل في القضاء على المستقبل.