الدونكيشوتية الأميركية و"متلازمة هافانا"
أفادت قناة "سي بي أس" بأن الولايات المتحدة لا تستبعد تورّط "عدو أجنبي" في ظهور أعراض ما تسمّى "متلازمة هافانا" بين موظفّي الحكومة الأميركية. وتؤكد القناة، وللمرة الأولى، أن عدوّاً أجنبيّاً للولايات المتحدة وراء الهجمات على الأميركيين، من دون تحديده. وكان مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية طلب رعاية طبية بعد ظهور الأعراض عليه، في يوليو/ تموز 2023، في أثناء مشاركته في قمة حلف الناتو في فيلنيوس.
اتهمت الإدارة الأميركية موسكو، معتبرة أنّ هذه "ليس لديها قيود على ما ستفعله وعلى الشخصيات التي ستهاجمها". وقد دعمت الإدارة الأميركية اتهاماتها بعدما اعتقلت في عام 2020 في فلوريدا روسيّاً يدعى فيتالي كوفاليوف، يعمل لمصلحة الاستخبارات الروسية، حيث أثارت الشكوك عن استخدامه "الطاقة الموجهة" ضدّ ضحايا "متلازمة هافانا" التي تصف وسائل الإعلام الأميركية والمسؤولون أعراضها بأنها تشبه تعرّض الشخص المصاب لـ"هجوم صوتي" أو تعرّضه لـ"طاقة موجّهة". وأعلنت إدارة البيت الأبيض السابقة أن أكثر من 40 دبلوماسياً أميركيّاً أصيبوا بأعراض غريبة منذ أكتوبر/ تشرين الأول عام 2016، في هافانا، نتيجة بعض التأثيرات الخارجية المجهولة.
وقد اتهم الرئيس السابق، ترامب، في 2017، كوبا بارتكاب هجمات غير محدّدة تسببت في أعراض المتلازمة، ولكن في 2018 أبلغ دبلوماسيون أميركيون في الصين عن مشكلات مماثلة، وكذلك عملاء سرّيون للمخابرات الأميركية يعملون في دول أخرى كانوا يتفاوضون معها بشأن طرق مواجهة العمليات السرّية الروسية في العالم.
الوجود الأميركي في القارّة السمراء بدأ يتراجع على حساب المدّ الروسي والصيني والإيراني
على الطريقة الدونكيشوتية، باتت الولايات المتحدة تحارب طواحين الهواء، فإدارتها تحارب اليوم متلازمة هافانا التي لم تحدّد مصدرها، بل وجهت مجموعة من الاتهامات إلى دول تعتبرها ضمن "محور المواجهة لسياساتها"، من دون أن تستطيع تحديد أعراض المتلازمة. لهذا بات السؤال: هل هذه المتلازمة عدو حقيقي للولايات المتحدة، أم هي من نسج خيالات وكالات استخباراتها لتكرّس في نفسها قناعة بأنّ هناك عدواً أجنبياً لها يجب محاربته؟
تتحدث رواية دون كيخوتي دي لامانتشا، للإسباني ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا، نشرها عام 1607، عن رجل نحيف طويل ظهر عليه التعب، كاد أن يفقد عقله، وأن ينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية، ثم يبلغ به الهوس حدًّا جعله يفكر في أن يعيد دور الفرسان الجوالين الناشرين للعدل والمدافعين عن الناس، فأخذه خيالُه إلى اختلاق أعداء له ويحاربهم.
يبدو أن الولايات المتحدة وصلت إلى حالة من "الرفضية الواقعية" لما بات عليه عالم اليوم، من صعود دولٍ أصبحت في الواقع حاضرة على الساحة الدولية، وتعمل متعاونة في القضاء على الهيمنة الأميركية، عبر السعي إلى تغيير النظام الدولي القائم. هذا ما دفع إدارة الرئيس الحالي جو بايدن إلى وضع استراتيجية الحرب لاحتواء هذه الدول، فعمَد إلى اختلاق المبرّرات التي تسمح له بمحاربة أعدائه. تنوع عدوها الأجنبي، فكثرت التوتّرات في العالم من الحرب الأوكرانية مع روسيا، إلى الدعم المطلق لإسرائيل في حربها على محور الممانعة بقيادة إيران، وصولاً إلى شرق آسيا مع وقوفها إلى جانب تايوان بوجه التنّين الصيني المستيقظ.
نشر موقع إنترسبت الأميركي دراسة بعنوان "هل تآكلت الثقة في مجتمع الاستخبارات الأميركي؟" توصلت فيها مؤسّسة راند المدعومة من وزارة الدفاع إلى أن المخابرات الأميركية تحرّف نتائجها لتحظى بتأييد صنّاع السياسة الجمهوريين والديمقراطيين، بما في ذلك الرئيسان ترامب وأوباما. ولفت الموقع إلى أنه من هجمات 11 سبتمبر (2001) إلى اقتحام مقر الكونغرس في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2021، هناك إخفاق استخباري واضح في تقييم الصورة الكبيرة بشكلٍ صحيح أو توقع الأزمات. وقد بدأ هذا الفشل ينسحب على المدّ الأميركي في العالم، وإعلان المجلس العسكري في النيجر في الشهر الماضي (مارس/ آذار) إنهاء الاتفاق الذي يسمح للقوات الأميركية العمل في البلاد، دليل آخر على التخبّط في الدبلوماسية الأميركية. فالوجود الأميركي في القارّة السمراء بدأ يتراجع على حساب المدّ الروسي والصيني والإيراني.
أدرك حلفاء الولايات المتحدة قبل خصومها أنها لا تعمل إلا لتحقيق مصالحها في العالم، ولو على حساب مصالح حلفائها
لقد أدرك حلفاء الولايات المتحدة قبل خصومها أنها لا تعمل إلا لتحقيق مصالحها في العالم، ولو على حساب مصالح حلفائها، لهذا لم تُفاجأ فرنسا من الموقف الأميركي بعد قطع النيجر علاقاتها معها. وقد تكون الحرب الأوكرانية مثالا على ذلك، عندما قرّر الكونغرس وقف التمويل العسكري لكييف، الأمر الذي ترك أوروبا تواجه مصيرها أمام الزحف الروسي مع تقهقر الجيش الأوكراني أمام ضربات الجيش الروسي.
لا ترتبط المسألة بـ"متلازمة هافانا"ولا بالعدو الأجنبي، بل هي مرتبطة مباشرة بـ"متلازمة البراغماتية" والعدو الداخلي، أي بالفكر والثقة الأميركيين اللذين باتا متلازميْن في التأثير سلباً على سياسات أميركا الخارجية، ما جعل من الدبلوماسية الأميركية مصدر قلق للحليف وعدم اكتراث للعدو، فالعدو الذي على الإدارة الأميركية محاربته هو الداخلي الذي بات يهدّد مصداقيتها داخليّا وخارجيّا.
قد تحتاج الإدارة الأميركية إلى النزول عن ظهر الخيل، ورمي سيفها والتوقّف عن محاربة طواحين الهواء، والنظرة أكثر بواقعية إلى مجريات الأحداث في العالم، فلم يقف الزمن على عتبة التسعينيات، عندما سقط الاتحاد السوفييتي، وهو تخطّى عتبة الـ2001 عندما كانت الصين بحاجة إلى واشنطن لإدخالها في منظمّة التجارة العالمية، ونفضت إيران عنها مصطلح "شرطي الخليج" لتصبح قوة إقليمية قادرة على إجبار الولايات المتحدة على السير في التفاوض، كما أن حلفاءها التقليديين، في مقدمتهم دول الخليج العربي باتوا على الضفة الأخرى من الرؤية الأميركية.