الديمقراطية الأميركية على مفترق طرق
أربعة أيام تفصل الولايات المتحدة عن الانتخابات النصفية، التي يعتقد معظم الأميركيين أنها ستكون الانتخابات النصفية الأكثر الأهمية في تاريخ بلادهم. ومع أن استطلاعات الرأي تتفق على أن الاقتصاد والتضخّم يقبعان على رأس أولويات الناخبين بلا منازع، إلا أن هواجس هذه الانتخابات وتداعياتها قد تتجاوز الخسارة المتوقعة للديمقراطيين وتعطيل الجمهوريين أجندة إدارة جو بايدن، في العامين المتبقيين لها، إلى القلق على استقرار الديمقراطية الأميركية نفسها. من هنا، كان خطاب بايدن، الأربعاء الماضي، والذي كان محصوراً في التحذير مما وصفه تهديد "قوى الظلام" التي تحرّكها مزاعم الرئيس السابق، دونالد ترامب، عن سرقة انتخابات عام 2020 منه. لم يتظاهر بايدن أن الاقتصاد والتضخّم والقضايا الأخرى، كارتفاع معدّلات الجريمة والخلاف حول التأمين الصحي، ليست ذات أهمية قصوى بالنسبة للناخبين، ولكنه سعى إلى تذكير الأميركيين أن "الديمقراطية خيار وقرار"، وأن تيار "ماغا المتطرّف" التابع لترامب في الحزب الجمهوري قد يقود حملة تشكيك في الانتخابات النصفية إذا لم تكن في صالح بعض مرشّحيه، أما الأخطر فسيكون في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024.
جاء خطاب بايدن على خلفية الاعتداء البشع الذي وقع الأسبوع الماضي على زوج رئيسة مجلس النواب، بول بيلوسي، في منزلهما في سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا. كان المجرم المتطرّف العنصري الأبيض، المهووس بنظريات المؤامرة ومزاعم سرقة انتخابات 2020 من ترامب، يستهدف نانسي بيلوسي نفسها، وعندما لم يجدها، هشم رأس زوجها بمطرقة كانت معه قبل أن تسيطر الشرطة عليه. وعلى هذا الأساس، اعتبر بايدن أن "الهجوم على ديمقراطيتنا" لم ينته يوم السادس من يناير/ كانون الثاني الماضي، عندما اقتحم متظاهرون غاضبون مؤيدون لترامب مبنى الكونغرس، بل إنه مستمر. وأشار، في هذا السياق، إلى أن هناك 300 مرشّح جمهوري لمناصب ولائية وفدرالية مختلفة يؤمنون بكذبة تزوير الانتخابات الرئاسية قبل عامين.
الظاهرة "الترامبية" الشعبوية حقيقية، أصلها ثابت، وجذورها عميقة
بعيداً عن غرض بايدن من وراء خطابه، سواء أكان سياسياً انتخابياً بالدرجة الأولى أم أنه منطلق من قلقه وحرصه على مستقبل الولايات المتحدة كما قال، إلا أن الوقائع على الأرض تؤكّد مخاوفه. مثلاً، أشار تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست، قبل أسابيع قليلة، إلى أن 291 مرشحاً جمهورياً على المستوى الوطني يتبنّون مزاعم سرقة انتخابات 2020 من ترامب لصالح بايدن. وحسب التقرير نفسه، فإن 171 من هؤلاء المرشّحين يتنافسون على مقاعد جمهورية، فيدرالية وولائية آمنة، في حين ينافس 48 منهم مرشّحين ديمقراطيين في انتخابات متقاربة جداً. وإذا أخذنا في الاعتبار أن في مجلس النواب الحالي 139 عضواً جمهورياً ممن عارضوا التصديق على نتائج انتخابات عام 2020 الرئاسية، أغلبهم يشغلون مقاعد آمنة، وأن هناك احتمالاً كبيراً بأن ينضم إليهم حوالي 33 عضواً آخر بعد الانتخابات الحالية، فلنا أن نتصوّر ما الذي يمكن أن يجري في حال ما جرى تنازع انتخابات الرئاسة عام 2024.
هذا بالضبط هو ما يحذّر منه بايدن ومراقبون كثيرون. هناك إمكانية لبروز مزاعم تزوير في الانتخابات الحالية ورفض اعتراف بالنتائج، إلا أن الأخطر قد يكون عام 2024، خصوصاً إذا ما قرر ترامب أن يترشّح مجدّداً، ويبدو أنه عازم على ذلك، اللهم أن توجّه له تهم جنائية ويُدان على أساسها. ولأن استطلاعات الرأي ترجّح فوز الجمهوريين في الانتخابات النصفية، وتحديداً في مجلس النواب، وكذلك في بعض المناصب الحسّاسة في بعض الولايات المتأرجحة، فإن المشكّكين بشرعية الانتخابات سيكون لهم نفوذ هائل في التصديق على نتائجها واختيار الرئيس القادم، في حال ما جرى تنازعها. إن حدث ذلك، فستكون الولايات المتحدة أمام أزمةٍ دستوريةٍ عميقة، وتقويض الثقة بالنظام الديمقراطي، وربما زرعاً لبذور صراع أهلي، قد تتضاءل أمامه أحداث اقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس.
حالة من "التشنّج الأخلاقي" تعانيها أميركا راهناً، وتراجع، إن لم يكن انهيار مستويات الثقة الشعبية بمؤسسات الدولة وسياساتها
الحديث عن احتمال وقوع أعمال عنف وصراع أهلي، بل وحتى انقلاب عسكري في الولايات المتحدة، ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى أكثر من سنتين. وقد سبق أن ناقشت مقالات عدة لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد" بعض أبعاده وتفاصيله. مثلاً، نشرت صحيفة واشنطن بوست، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2021، مقالين مهمين يقرعان أجراس الإنذار، تحسّباً من حرب أهلية أميركية تلوح في الأفق، تضمّن أحدهما هواجس من مغبّة انهيار المؤسّسة العسكرية نفسها. الأول كتبه ثلاثة جنرالات أميركيين متقاعدين بعنوان "يجب أن يستعدّ الجيش الآن لتمرّد عام 2024". الثاني للكاتب دانا ميلبانك، بعنوان "دراسة جديدة تقول: نحن أقرب إلى الحرب الأهلية أكثر مما يودّ أيٌّ منا تصديقه". بل إن تقريراً نشر عام 2020 في موقع "أكسيوس" الأميركي، كتبه براين والش، أشار إلى تحذير خبراء ممن درسوا انهيار الحضارات السابقة من أن الولايات المتحدة تظهر عليها أعراض مجتمعٍ يعيش خطراً وجودياً حقيقياً، وإن لم يكن هذا حتمياً، على شرط أن تكون الاستجابة بمستوى التحدّيات. ونقل والش عن الباحث في جامعة كامبريدج البريطانية، لوك كيمب، قوله إن "الولايات المتحدة معرّضة لخطر الانهيار خلال العقد المقبل". أما الأسباب، التي يقدّمها ديفيد بروك لذلك في دراسة نشرها في مجلة أتلانتيك عام 2020، فتتلخص في حالة "التشنّج الأخلاقي" التي تعانيها أميركا راهناً، وتراجع، إن لم يكن انهيار مستويات الثقة الشعبية بمؤسسات الدولة وسياساتها. أما الأخطر فهو انهيار الثقة المجتمعية البينية، جرّاء الاستقطاب الحادّ.
لا زالت هذه التحذيرات وغيرها قائمة، بل إن نذرها في حالة تصاعد، وهي تنبئ بخطر عظيم تواجهه الدولة التي تحبّ أن تصف نفسها بأنها الديمقراطية الأعرق على وجه البسيطة. المفارقة أنها تأتي في خضم محاولات بايدن تسويق النموذج الأميركي "الديمقراطي" عالمياً في مواجهة نموذج "الاستبداد" الذي تجسّده كل من الصين وروسيا. ولعل بايدن كان مصيباً عندما حذّر من مغبة أن يتعامل الأميركيون مع الديمقراطية على أنها أمر مضمون لهم، بل هي هشة وقابلة للكسر إن لم يفلح الشعب في الحفاظ عليها. وفي الحقيقة، فإن أكبر تهديد تواجه الولايات المتحدة اليوم يأتي من داخلها لا من خارجها. ومع أن انزلاق الدولة الأعظم إلى صراع أهلي ليس أمراً حتمياً، إلا أن الحلول لا تأتي بالتمني، فالظاهرة "الترامبية" الشعبوية حقيقية، أصلها ثابت، وجذورها عميقة، ووقودها جاهز للاشتعال من جديد، وهي تتغذى على غضب عارم وأسباب موضوعية كذلك.