الديموغرافيا وحدها ليست الحل للقضية الفلسطينية
صرّحت رئيسة الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني علا عوض، قبل نحو ثلاثة شهور، بأنه للمرة الأولى يتساوى مجموع كل الفلسطينيين المقيمين في فلسطين التاريخية مع مجموع اليهود فيها؛ فقد وصل إلى سبعة ملايين نسمة، وهو ما يساوي عدد اليهود مع زيادة طفيفة للغاية لصالح هؤلاء؛ حيث أصبحت نسبة اليهود 50.1% من مجموع من يعيشون في فلسطين التاريخية.
لطالما كان الجانب الديموغرافي سلاحا مهما يعتمد عليه الفلسطينيون في صراعهم ضد الاحتلال، وكان الفلسطينيون قبل 1948 يرون أن التهديد الديموغرافي لا يقل خطورة، بل ربما كان أخطر من امتلاك اليهود الأراضي في فلسطين، على أساس أن هذا كان أحد وسائل الحركة الصهيونية لاحتلال فلسطين. وعلى هذا الأساس، أرادت منظمة التحرير، في ما بعد، أن تتحول الديموغرافيا من تهديد إلى فرصة، ولذلك كثيرا ما كان الراحل ياسر عرفات يتحدّث عن انتصار الرحم الفلسطيني.
بالمثل، كانت مسألة الديموغرافيا ذات أهمية مركزية لدى الحركة الصهيونية؛ فقد كانت هذه تجمع اليهود القادمين إلى فلسطين في مناطق بعينها، حتى يصبح لديهم أغلبية في هذه المناطق، فإذا انتهوا من منطقة انتقلوا إلى أخرى .. وهكذا. وكان الجدال الصهيوني يتمحور حول خيارين أو تيارين: أحدهما يخشى من ابتلاع اليهود داخل الأغلبية العربية، ولم يكن يثق في إمكانية إقامة كيان مشترك مع العرب، ولذلك كان هذا التيار يدعم تقسيم الأرض على أساس من يمتلك الأغلبية، والتيار الآخر يؤمن بأن اليهود سيتمكّنون من تحقيق أغلبية لهم في فلسطين، ومن ثم لا داعي لتقسيمها على أساس الأغلبية، وأن يكون السعي من أجل السيادة على فلسطين كلها.
كان أنصار الاتجاه الأول يرون خطورة الصراع الديموغرافي؛ ويمثله حديثا باحثان إسرائيليان؛ يفجينيا بيستروف وأرنون سوفير. ويرى الاثنان أن هناك مخاطر ديموغرافية من شأنها إضعاف السيادة الإسرائيلية على مناطق الجليل، والمثلث، والنقب والقدس، وأن هذا قد يؤدّي إلى أن تصبح الأغلبية اليهودية محصورة في مساحة حضرية محدودة أطلق عليها الباحثان تسمية "دولة تل أبيب"، في الوقت الذي يرى فيه الباحثان أن عدم قدرة سكان الدول العربية المجاورة، وكذلك السلطة الفلسطينية، على التكيّف مع متطلبات العولمة، وبطء تطوّرهم سيؤدي إلى وجود فجوة اجتماعية بينهم وبين الإسرائيليين، وهذا سوف يؤدي إلى زيادة العداء، ويعرّض إسرائيل للتهديد والضعف. وبناء على ذلك، يؤكد بيستروف وسوفير أن مستقبل الوضع الديموغرافي ليس في صالح إسرائيل، وأن إسرائيل "تستطيع البقاء فقط إذا توفر لها شرطان: أحدهما أن تكون لها أغلبية يهودية صهيونية واضحة، تعيش في منطقة تسمح حدودها بممارسة سيادة الدولة وحمايتها، والآخر أن تحيا بما يليق بمجتمع غربي"، غير أن البيانات والمعطيات الديموغرافية، وفق رأي الباحثين من هذا الفريق، تهدّد توفير الشرطين اللازمين لبقاء إسرائيل، بل وتهدّد إسرائيل وجوديا. ومن هنا، يستنتج بيستروف وسوفير أن ذلك يتطلب الانفصال التام عن الفلسطينيين، بحيث يتم التخلص من أربعة ملايين فلسطيني من التوازن الديموغرافي لإسرائيل إذا جرى هذا الفصل.
ينضم لهذا الفريق أيضا البروفيسور سرجيو ديلا برجولا؛ وهو أحد علماء الديموغرافيا ذوي المكانة العالمية. يرى أن اليهود في عام 2013 كانوا أغلبية محدودة في إسرائيل (يقصد بها هنا أرض فلسطين كلها) تقدر بـ52% فقط (تراجعت في 2021 إلى 50.1% فقط). ولا يعلق ديلا برجولا آمالا كبيرة على عامل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فآخر الهجرات اليهودية الكبيرة كانت مواكبة لتفكّك الاتحاد السوفييتي الذي لم يكن نظاما ديمقراطيا، ويقول إن أعداد اليهود في الدول غير الديمقراطية حاليا صغيرة نسبيا، وبالتالي، لا يعوّل عليها في التأثير على الواقع الديموغرافي، كما أن التعويل على هجرات يهودية كبيرة من الدول الغربية التي فيها أعداد كبيرة من اليهود، كالولايات المتحدة وكندا وفرنسا وبريطانيا، غير منطقي .. ولذلك، يرى أيضا أن الوضع خطير، ويجب التصرّف قبل فوات الأوان.
توقعت دراسات صادرة في عام 2013 أن يحدث تراجعٌ عنيف في زيادة السكان الفلسطينيين بدءا من عام 2030
أما أنصار الاتجاه الآخر فيقللون من خطورة الوضع الديموغرافي معتمدين على أبحاث معهد الدراسات الاستراتيجية الصهيونية، والتي تقدّم بيانات مختلفة عن التي يعتمد عليها الفريق السابق؛ حيث تفيد هذه الأبحاث بأن أعداد الفلسطينيين الذين يسكنون في مناطق السلطة الفلسطينية، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، هي أقل بنحو ما بين 0.7 إلى 1.3 مليون نسمة عن التعداد الذي اعتمده الفريق الآخر، وعن بيانات الهيئة المركزية للإحصاء الفلسطينية. إضافة إلى ذلك، تشير بيانات المعهد إلى وجود أغلبية يهودية كبيرة على مجمل أرض فلسطين التاريخية باستثناء قطاع غزة، تصل إلى 66%، على أساس أن الاحتلال كان قد انسحب من القطاع منذ عام 2005. إضافة إلى ذلك، توقعت دراسات صادرة في عام 2013 أن يحدث تراجعٌ عنيف في زيادة السكان الفلسطينيين بدءا من عام 2030، وذلك لعوامل عدة؛ كتحسّن المستوى التعليمي، ونمو الاتجاه نحو المدنية والتحضّر، وهجرة الشباب الفلسطيني إلى الخارج، ووجود نسبة وفيات أعلى في الجانب الفلسطيني، إضافة إلى ما يحدث من زيادة طبيعية في أعداد اليهود.
ويعد يورام أتينجر أحد المدافعين عن هذا الطرح، ويرى أن تضخيم أعداد الفلسطينيين الساكنين في مناطق الضفة وغزة رد فعل فلسطيني لمواجهة موجات الهجرة اليهودية، بهدف بث القلق في أوساط اليهود والقيادة الإسرائيلية. وبناء على أخطاء رأى أتينجر أن الفريق الآخر قد وقع فيها (كاعتماده على تعداد غير صحيح)، فإنه يرى أن "الزعم إن اليهود سوف يصبحون أقلية في أرض فلسطين التاريخية خطأ درامي وفضيحة مضللة، وبالتالي، لا يجوز، والحالة هذه، التنازل عن الجغرافيا لإنقاذ الديموغرافيا".
ويرجع باحثون إسرائيليون هذا الاختلاف الكبير بين الفريقين إلى عدة أسباب، طبقا للرؤية الإسرائيلية؛ منها مدى موثوقية بيانات الهيئة المركزية للإحصاء الفلسطينية ودقتها؛ وهي موضع شك عند الباحثين الإسرائيليين، ومنها كذلك احتساب فلسطينيي غزّة في التعداد الشامل، على الرغم من إدارة حركة حماس لها بوصفها كيانا مستقلا، ومنها أيضا أن إسرائيل ترى أنه عادة ما يجري احتساب عشرات الآلاف من الفلسطينيين رغم إقامتهم خارج نطاق السلطة الفلسطينية وأن هذا يخالف المعمول به في البحث الديموغرافي، أو احتساب أعداد قد تصل إلى 300 ألف فلسطيني مرّتين؛ مرة من الهيئة المركزية للإحصاء الإسرائيلية، ومرة من نظيرتها الفلسطينية، نتيجة أن هؤلاء ممن يقيمون في شرق القدس ضمن قانون لمّ الشمل، ويحملون هوية إسرائيلية.
للديموغرافيا أهمية كبيرة، وأن تكون من حلقات الصراع الفلسطيني، لكن غير المفهوم أن نحتفي بانتصار الكم، ونحن نهمل الكيف
إضافة إلى ذلك، لم يوضع في الاعتبار احتساب أي موجات هجرة يهودية محتملة، فمن شأنها إذا حدثت أن ترفع عدد المواليد اليهود في إسرائيل. ويقول الإسرائيليون أيضا إن الهيئة المركزية للإحصاء الفلسطينية لم تكن تحتسب الهجرة الفلسطينية السلبية إلى الخارج، وأنها كانت تعطي أرقام وفيات أقلّ مما يحدث، لأن ذلك يؤثر في المساعدات التي تقدّمها المنظمات الدولية للفلسطينيين على أساس عدد أفراد الأسرة.
ويقول رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز موشيه ديان في جامعة تل أبيب ميخائيل ميلشطاين إن هذا الاختلاف سبق قيام الدولة، وإنه مثلما اختلف الباحثون بشأن التهويل أو التقليل من الوضع الديموغرافي، اختلف السياسيون كذلك، حيث انقسموا إلى فريقين؛ أحدهما كان يؤيد فصل الأراضي على أساس الأغلبية الديموغرافية، وهذا الفريق كان يحذّر من أن عدم الفصل سوف يؤدّي إلى فقدان الأغلبية اليهودية على فلسطين كلها، وقد يقود إلى ما يشبه النموذج الجنوب أفريقي، حيث أصحاب الأصول الأوروبية قلة، مقارنة بسكان البلاد الأصليين من السود. ولذلك كان ييغال ألون، وهو أحد القادة السياسيين والعسكريين السابقين في إسرائيل، يدعو إلى الفصل التام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وكان يريد نقل جزءٍ من أراضي الضفة الغربية إلى الأردن، لتكون ملجأ للفلسطينيين، حتى لا تكون هناك دولة فلسطينية. وكان إسحق رابين يبرر اتفاق أوسلو بخوفه من أن وجود دولة واحدة ثنائية القومية مع الفلسطينيين سوف يهدّد الطبيعة اليهودية والديمقراطية لإسرائيل؛ وكان ذلك أحد أسباب موافقته على إقامة السلطة الفلسطينية.
وفي مقابل ذلك، كان هناك معسكر رفض هذه النبوءات الديموغرافية؛ بدءا من شمعون بيريس في بدايات السبعينيات، مرورا بمناحيم بيغن، وانتهاء بأغلب قادة اليمين حاليا. فقد رفض هؤلاء، وما زالوا، البيانات عن أعداد العرب في الضفة وغزة، وزعموا إن خصوبة المرأة الفلسطينية في تراجع مستمر، بينما تتزايد خصوبة المرأة اليهودية، إضافة إلى هجرة الفلسطينيين إلى الخارج، في مقابل استقبال مزيد من المهاجرين اليهود. وكانت هذه، من وجهة نظرهم، عوامل تؤدّي إلى أن تكون الديموغرافيا في صالح إسرائيل. وبناء على هذه المعطيات، لا يرى أنصار هذا الفريق أي مانع من فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية.
تراجع معدّل الخصوبة عند المرأة الفلسطينية من 4.6 ولادات قبل 20 عاماً إلى 3.8 حالياً
وتفيد الأرقام الرسمية حاليا بأن معدل الخصوبة عند المرأة الفلسطينية يتراجع باستمرار، ويردّ الإسرائيليون ذلك لعوامل عدة؛ منها ما تعيشه المرأة الفلسطينية من حالة تحضر اجتماعي وثقافي يدفع بها إلى التعلم والالتحاق بسوق العمل، وهذا يؤدّي إلى تأخر سن الزواج، وتقليل عدد مرّات الولادة، كما أنه سبب في رفع نسب الطلاق. وقد تراجع معدّل الخصوبة عند المرأة الفلسطينية من 4.6 ولادات قبل 20 عاما، إلى 3.8 حاليا (3.8 في الضفة، و3.9 في غزة). أما في أوساط النساء المسلمات في أراضي 48 فإن النسبة 2.9 ولادة حاليا في عام 2020، وهي أول مرة ينزل هذا المعدل عن ثلاثة مواليد، مقابل 9.2 في عام 1960، هذا في وقت وصل فيه معدل الخصوبة لدى المرأة اليهودية إلى ثلاث ولادات، وهو أعلى معدّل ولادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة من عام 48، بينما تقف النسبة في أوساط المسيحيات عند 1.85 ولادة.
وإذا كان معدّل الولادة الأعلى تسجله النساء اليهوديات تحديدا، فإن أوساط الحريديم الأكثر تديّنا هم أصحاب المعدل الأعلى؛ إذ يصل معدل الولادة لدى المرأة الحريدية إلى 6.64 ولادات، وفي أوساط المتدينين يصل المعدل إلى 3.92 ولادات، ويقل في أوساط العلمانيين إلى 1.96 ولادة.
يوضح ما سبق أن كلا الفريقين يشعران بخطورة الوضع الديموغرافي، لكن الحقيقة أن الديموغرافيا وحدها لا يمكن أن تكون الحل؛ فما قيمة الزيادة السكانية في ظل مشكلات الجهل والفقر والتخلف التي يعاني منها الناس؟ وما قيمة الانتصار الديموغرافي في ظل التخلف العلمي الذي يسيطر على أوطاننا؟
من المفهوم أن تكون للديموغرافيا أهمية كبيرة، وأن تكون من حلقات الصراع الفلسطيني، لكن غير المفهوم أن نحتفي بانتصار الكم، ونحن نهمل الكيف. نوعية الإنسان أهم بكثير من عدده، ومن أسفٍ أنه ليس من أولويات النظام العربي نوعية الإنسان.