الدين والعلمانية في فضاء ديمقراطي
ربطت الأطروحة العلمانية بين تحديث المجتمع وعلمنة السكّان، ورأت أن التمايز الوظيفي للدولة التي بدأت، منذ القرن التاسع عشر، في تولّي أدوارٍ اجتماعيةٍ عديدة يلعبها الدين، يؤدّي إلى فقدان الكنائس والهيئات الدينية الأخرى سيطرتها على مختلف المجالات، لتقتصر وظيفتها على إدارة وسائل الخلاص لأعضائها. الأمن الوجودي بفضل ما تحقّق من رفاهية وضمان اجتماعي، في مجتمعاتٍ ما بعد صناعية، أدّى إلى تراجع الحاجة الشخصية للتعامل مع الحالات الطارئة، توسّلا بما هو فوق الطبيعة. تميّزت فترة ما بعد الحرب بعلمنةٍ تقدّميةٍ للحياة الاجتماعية والثقافية في معظم الدول الديمقراطية الليبرالية الغربية، مع انخفاضٍ في جميع مقاييس التدين. ومع ذلك، بحلول مطلع الألفية الجديدة، أصبح مزيدٌ من المفكّرين أكثر وعيًا بحقيقة أن الظاهرة الدينية بعيدة عن الزوال، وأنها ظلت مؤثرة للغاية في الشؤون السياسية، بل باتت حيوية الدين وعودته إلى الحياة العامة من المسلمات في النقاشات السياسية والأكاديمية، وأثار ذلك تساؤلاتٍ حول ما إذا كانت العلمانية الآن تواجه أزمة، أم أن على المجتمعات العلمانية أن تكيّف نفسها مع استمرار وجود المجتمعات الدينية في البيئة العلمانية، وأن تنظر إلى ذاتها بوصفها مجتمعاتٍ ما بعد - علمانية. وكيف هي حال مجتمعاتنا العربية في مواجهة هذه التحولات؟
الدين في الفضاء العام
وقوفا عند بعض الإحصاءات عربيا وغربيا، يبيّن "المؤشّر العربي" (2019/ 2020) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنه، وبحسب تعريف المستجيبين الذاتي لأنفسهم، أفادت نسبة 63% بأنهم "متدينون إلى حدٍّ ما"، ووصف 23% أنفسهم بأنهم "متدينون جدا"، وذهب 12% إلى أنهم "غير متدينين". وإن لم تكن الأرقام العربية مفاجئة، وكذا الأرقام المرتفعة المتعلقة بالإيمان المسيحي في الولايات المتحدة الأميركية، فإن الأرقام في المجتمعات الأوروبية الموصوفة بالعلمانية أظهرت نسب تديّن مرتفعة، على سبيل المثال، بيّن تعداد السكان الحكومي البريطاني لعام 2001 أن ما يزيد عن 70% من الناس عرّفوا أنفسهم بأنهم "مسيحيون"، وكانت نسبة من وصفوا أنفسهم "مؤمنين بالله" مماثلة. وفي "دراسة القيم الأوروبية" (1999 - 2000) تَبيَّن أن متوسط ما يزيد عن 77% من الأوروبيين أفادوا بأنهم مؤمنون بالله، وارتفعت النسبة الى 90% في البلدان الكاثوليكية (نحو إيطاليا وإيرلندا والبرتغال وأسبانيا)، بينما بلغت في الدنمارك وبلجيكيا وألمانيا والمملكة المتحدة 70%، وانخفضت النسبة في البلدان الأكثر ليبرالية والبروتستانتية تاريخيا، كما في السويد إلى 53%، لتكون استثناء إلى جانب فرنسا وهولندا.
الأرقام في المجتمعات الأوروبية الموصوفة بالعلمانية أظهرت نسب تدين مرتفعة
يحافظ الدين بحسب إميل دوركهايم على التماسك والتضامن الاجتماعيين عبر الطقوس والمعتقدات المشتركة، ويقوم بدور الرقابة الاجتماعية على الالتزام بالأخلاق والمعايير الدينية، ما يساعد على توافق المجتمع وضبطه، كما أنه يقدّم معنى وهدفًا للإجابة عن الأسئلة الوجودية. وعلى الرغم من أن دوركهايم يحرم الدين مما يعتبره مؤمنون كثيرون ضروريا فإنه لا يعدّه وهما، بل هو حقيقي للغاية، وتعبير عن الوعي الاجتماعي الذي هو محصلة لوعي الأفراد. على الرغم من أن الحداثة ترافقت مع العلمنة، في أماكن أخرى أكثر من غيرها، إلا أن العلمنة على مستوى المجتمع لم تعن بالضرورة علمنةً على مستوى الإدراك الفردي، واستنفرت أحيانا ردات أفعال مضادّة، ومع تراجع الدين المؤسّسي، تولّدت أنماط من التديّن الشعبي، تمأسست حينا، وولدت حماسا دينيا في أحيان أخرى. فلا وجود لمجتمع من دون دين، والدين لا يزول، بل يتحوّل (عزمي بشارة). أحداث مثل الثورة الإيرانية عام 1979، وظهور اليمين المسيحي في الولايات المتحدة، وانهيار الأنظمة الملحدة بقيادة الدولة في الاتحاد السوفييتي، وتعاظم حضور الإسلام السياسي وتمدّده خارج الحدود الوطنية، وأحداث "11 سبتمبر" 2001. ذلك كله كان لحظات ميّزت عودة الدين إلى الممارسة السياسية العالمية، واكتسب الدين في أعقابها اهتمامًا أكاديميًا استثنائيًا، واهتمام السياسات الخارجية، ودلّ على تعدّد الطرق التي يتشابك بها الدين والسياسة.
لم تعد الحدود بين المجالين "الديني" و"العلماني" نهائية كما كان يُعتقد، بل أصبحت محطّ تنازع في أماكن مختلفة في العالم
لم تعد الحدود بين المجالين، الديني والعلماني، نهائية كما كان يُعتقد، بل أصبحت محط تنازع في أماكن مختلفة في العالم، فالدين الذي بدا أنه تراجع إلى المجال الخاص عاد وبقوة إلى المجال العام، الخلافات حول القضايا العامة مثل إضفاء الشرعية على زواج المثليين، الموت الرحيم، الموت بالمساعدة، الخلافات حول حقوق الإنجاب وقضايا المساواة، هذا ونحوه أصبح منذ السنوات الأخيرة من القرن العشرين، على جداول الأعمال السياسية الوطنية، لذلك يعتقد هابرماس أن الزمن الذي كان فيه الفضاء العام الصاعد في أوروبا، مع يقظة الإصلاحيين، فضاء للنقاش داخل التراث والفكر المسيحيين قد مضى، وأن الأمور تعقّدت اليوم مع مشاركة تراثات دينية أخرى مهاجرة، فضلا عن الخطاب المناهض للدين من قبل من يفهمون تراثهم على أنه علماني.
فصل الدين عن الدولة
لا يوجد إجماع حول ما تعنيه العلمانية. بالنسبة لجورج هوليوك الذي يعتبر أبرز مصمّمي هذا المصطلح (منتصف القرن التاسع عشر) كانت العلمانية وسيلةً للدلالة على إطار أخلاقي مستقل عن الدين، وحرص على تجنب الدلالات السلبية التي ارتبطت بمصطلح "الإلحاد"، والذي لطالما اعتبره تهديدا للنظام الاجتماعي. فكانت العلمانية وسيلةً لتعزيز رفاهية الإنسان بالوسائل المادية (قياس رفاهية الإنسان بالقاعدة النفعية) وجعل خدمة الآخرين واجب الحياة. لكن كثيرا ما انزلقت العلمانية إلى الأيديولوجيا لتصبح (كما يقترح بشارة) "علمانوية"، أو عقيدة أو برنامجا سياسيا مع دلالاتٍ معادية للدين (كريغ كالهون). مع ذلك، ليس هناك علمانية واحدة، بل علمانيات، والعلمنة ليست تاريخا واحدا بل صيرورات وتواريخ. تنتشر العلمانية في المجتمعات بدرجات متفاوتة "ويصح القول إن انتشار الدين والثقافة الدينية درجات، وإن ثمة درجات من العلمنة، أكثر مما يصح أن نقول إن الدين ينفصل عن الحيز العام أو عن الدولة أو عن السياسة فصلا كليا من خلال العلمنة" (عزمي بشارة).
بيّنت دراسة استقصائية أجراها مركز بيو للأبحاث (2011) أن 59 دولة (30% من إجمالي دول العالم) لديها قوانين أو سياسات محددة تحظر التجديف أو الردة أو ازدراء الأديان، وأن 44 دولة من تلك الدول قامت بفرض عقوبات على مثل هذه السلوكيات؛ الغرامات والسجن وحتى الإعدام. وهناك اليوم تشكيك في وجود دولة تتمتع بفصل حقيقي بين الكنيسة والدولة، إذ تسلط دراسات الضوء على مجموعة من الترابطات المؤسسية والقانونية، بين الدين والدولة، مثلا؛ بيّنت إحدى الدراسات عام 2003 (Barro and McLeary) أن هناك 75 دولة لها دين رسمي في مطلع الألفية (40% من إجمالي دول العالم)، وكان لدى دول أخرى عديدة، روابط أقل رسمية، ولكنها لا تزال مؤثرة في المنظمات الدينية، قد تعني العلمانية ببساطة التزاما معياريا بالحياد من جانب الدولة تجاه الشؤون الدينية، من الناحية المؤسّساتية، يُفهم هذا عادةً على أنه يعني التزاما بدعم الفصل بين الكنيسة والدولة. عمليا ومؤسّساتيا، فإن فكرة "الحياد" تظل مفتوحة للتأويل. فلا يوجد فهم واحد لمعنى "علماني"، عندما يتعلق الأمر بمسؤوليات الدولة تجاه الدين، فبالنسبة للعلمانية المحايدة: الدولة غير دينية ويجب ألا تدعم الدين بأي شكل من الأشكال، في العلمانية الإيجابية: لا تؤكد الدولة المعتقدات الدينية لأي دينٍ معين، ولكنها قد تخلق ظروفا مواتية للأديان بشكل عام، في العلمانية السلبية الدولة ليست مختصّة في الأمور المتعلقة بالدين، ولكن يجب ألا تتصرّف بطريقة تمنع المظاهر الدينية التي لا تهدد المصلحة العامة، وفي العلمانية الشاملة يجب ألا يُدار أو يدير الدولة دين معين، ولكن يجب أن تتصرف بحيث تشمل أوسع مشاركة للجماعات الدينية المختلفة، بما في ذلك غير المتدينين.
فصل الدين عن الدولة لا يعني بالضرورة فصل الدين عن المجتمع
بعض العلمانيين يسلطون الضوء على الطرق المختلفة التي يمكن للدين من خلالها التصرّف كقوة اجتماعية سلبية. تشمل الحجج الرئيسية هنا دور الدين في حالات العنف والصراع وحالات التمييز في قضايا النوع الاجتماعي والتوجّه الجنسي والحقوق الإنجابية؛ والحالات البارزة لإساءة استخدام السلطة الدينية، في حين أن مناهضي العلمانية يقدمونها غالبا على أنها مناهضة دائما للدين، لكن تطبيقها في مجتمعات شديدة التدين، مثل الولايات المتحدة والهند، يظهر أن الحال ليست دائما كذلك. يصرّ العلمانيون على أن الفصل بين الكنيسة والدولة يوفر أفضل إطار لدعم حقوق وحريات جميع المواطنين، بغضّ النظر عن دينهم أو معتقدهم، وهناك أدلّة تدعم الرأي القائل إن العلمانية تقدّم طريقة لزيادة حقوق الإنسان والحريات، بما فيها الحرّيات الدينية. ففي مجتمعاتٍ مُعلمنة إلى حد كبير، مثل المملكة المتحدة، تُمنح المنظمات الدينية مزايا غير متاحة لفئات اجتماعية أخرى، مثل النقابات العمالية أو الجمعيات الخيرية غير الدينية، مما يمنحها مكانة في الحياة العامة يمكنها في بعض الحالات من أن تؤثر على قرارات السياسة العامة حيث تشارك السلطات الدينية في المجلس التشريعي الأعلى، كما يتم منح مجموعات متنوعة من الإعفاءات للجماعات الدينية في القضايا المتعلقة بالضرائب واللوائح القانونية (مثل قانون العمل وتوفير الخدمات العامة). في ألمانيا، تقوم الدولة تلقائيًا بخصم "ضريبة الكنيسة" من الأعضاء المسجلين في العديد من الطوائف الدينية كجزء من إعاناتها العامة للدين، ويسري ذلك في بلدان أوروبية عديدة أخرى، بما في ذلك النمسا وإيطاليا وفنلندا.
فصل الدين عن الدولة لا يعني بالضرورة فصل الدين عن المجتمع، ولا تعني العلمنة بالضرورة تراجعا في الإيمان الديني أو الممارسة الدينية، بل أيضًا تغيرا في أوضاع الإيمان ذاتها، وقد أكد كريغ كالهون أن ظهور العلمانية واكبته تغيّراتٌ أخرى كثيرة ينبغي تثمينها، مثل فكرة أعمق عن الذات، والفاعلية الذاتية، ونظام اجتماعي أكثر مساواة. وعلى الرغم من أن الإيمان قد يكون إشكاليًا بطرق جديدة، فقد يكون أيضًا ذا معنى بطرق جديدة. يؤكد مؤيدو دور الدين في الحياة العامة، ومنهم علمانيون، أن الدين يوفر مجموعة من المنافع العامة ويمنح الأفراد إحساسًا بالمعنى والهوية. على هذا النحو، يجادلون بأن الجهود المبذولة لإبقاء الدين خارج المجال العام غير ليبرالية وغير متسامحة وغير ديمقراطية. هناك ادّعاء ذو صلة هنا يفيد بأن الآراء الدينية تستدعي وجود مساحة في المجال العام، لأنها قادرة على تقديم مساهمة قيّمة من حيث تعزيز القيم الاجتماعية الإيجابية. يكمن جوهر هذه الحجة في فكرة أن الدين يحتوي على بُعد أخلاقي مع إمكانية إفادة الخطاب العام، مثل تسليط الضوء على قضايا الظلم والفقر وعدم المساواة الاجتماعية والإقصاء. يعتبر الدين، بهذا المعنى، منفعة عامة جوهرية، ومستودعًا للقيم والأخلاق التي يمكن الاستفادة منها لمصلحة جميع المواطنين. تشمل الأمثلة التاريخية الشائعة على ذلك دور المنظمات الدينية في مناهضة العبودية؛ ودورها في تطوير حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة؛ ودور الكنيسة الكاثوليكية في معارضة الأنظمة الشيوعية للكتلة السوفييتية، والمساعدة في إسقاطها في نهاية المطاف. يتماشى مع هذا التأكيد الشائع على أن الدين يوفر مصدرا فريدا ومفيدا لرأس المال الاجتماعي، مما يساعد على إنتاج "الرابط الاجتماعي" للثقة العامة والتعاون والتماسك الذي يحتاجه المجتمع الديمقراطي لكي يعمل بفعّالية. الحجة الرئيسية في هذا الصدد هي أن المواطنين المتدينين هم أكثر عرضة للانخراط في الأنشطة الخيرية، مثل التطوع والتبرعات لأسباب خيرية، من المواطنين غير المتدينين.
ما بعد العلمانية
اليوم يفهم مزيد من العلمانيين في الغرب أن الفصل بين الكنيسة والدولة يعني أن الدين يجب أن يبقى على المستوى نفسه من جميع الفاعلين السياسيين الآخرين، وأنه لا ينبغي السماح له بدور متميز في الحياة العامة، ولكن يجب أن يكون بخلاف ذلك مشاركًا حرًا ومتساويًا في المناقشات السياسية. بعضهم، مثل هابرماس الذي يعود له الفضل في تعميم مصطلح ما بعد - العلماني ومشتقاته، يقيد تلك المشاركة بشروط؛ ففي مجتمعات متنوعةٍ وتعدديةٍ يحمل المواطنون مجموعة متنوعة من وجهات النظر العالمية المتنافسة وأحيانًا غير المتوافقة، يجب على الفاعلين الذين يقدّمون الحجج في المجال العام أن يتبنوا الشكل العلماني للغة والاستدلال أي الإطار الذي يوصف عادة باسم "العقل العام"، لأن الحجج المعبر عنها بلغة دينية تبقى مفهومة فقط لأعضاء المجموعة الدينية، وبالتالي لن تكون متاحةٌ عالميًا لجميع المواطنين، ومن الضروري الاتفاق على مجموعة معايير للمفاهيم واللغة توفر للغالبية العظمى من المواطنين إمكانية فهمها والاتفاق عليها، تسهيلا لهذا النوع من المشاركة التداولية والتبادل الحر للأفكار. غربا، لا تزال المناقشات حول نطاق معايير المجال العام مستمرة. يجادل بعض العلمانيين بأن العقل العام يجب أن يطبّق فقط على القضايا التشريعية والدستورية، لكن البعض الآخر يؤكّد أن المبدأ يجب أن يمتد ليشمل مفهوم المجال العام الذي يشمل جميع مسائل الخطاب العام وصنع القرار السياسي بين المواطنين.
الفصل بين الكنيسة والدولة يعني أن الدين يجب أن يبقى على المستوى نفسه من جميع الفاعلين السياسيين الآخرين
في جديد الجدل بشأن العلاقة بين الدين والعلمانية تبرز وجهة النظر القائلة إن المجتمعات الديمقراطية الغربية أصبحت الآن "ما بعد علمانية" بشكل متزايد؛ فعودة الدين إلى المجال العام أدّت إلى تحدّي الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها العلمانية، وأعلن هابرماس في العام 2008 أنه يمكن اليوم وصف الوعي العام في أوروبا بمصطلح "مجتمع ما بعد علماني ". قد يبدو أن العلمانية نفسها تتعرض لضغوط أو أنها تعاني من بعض أشكال الأزمات، لكن الخطوط العريضة والملامح الدقيقة لهذا المشهد العالمي الجديد لا تزال غير مرئية، إلا أن الادعاء المركزي هو أن الدين قد أكد نفسه في المجال العام مما يهدد النماذج الحصرية للعلمانية. يسعى اليمين المسيحي في أوروبا والولايات المتحدة بنشاط إلى أجندة لمحاولة تقويض حقوق المثليين، وتقييد وصول المرأة إلى الرعاية الصحية الإنجابية، والضغط من أجل تأثير ديني أكبر في الحياة الاجتماعية والسياسية؛ في تركيا، تواجه العلمانية هجومًا من قبل النظام الحاكم لحزب العدالة والتنمية على خلفية إسلامية يهدد في نظر بعضهم بتآكل مبدأ الدولة. وفي الهند، أدى صعود القومية الهندوسية التي عززها حكم حزب بهاراتيا جاناتا إلى تزايد حوادث العنف الديني ضد أعضاء الأقليات الدينية. ومع ذلك، فإن النقاشات حول "ما بعد العلمانية" هي أيضًا إشكالية. لا يوجد حتى الآن إجماع بين العلماء حول ما يعنيه المفهوم نفسه في الواقع: هل يشير إلى نوع من العودة إلى الأشكال التقليدية للدين، أو نوع من التعايش الجديد بين وجهات النظر الدينية والعلمانية، أو تغيير في شكل الدين نفسه وكذلك علاقته بالمجال العام. البعض يشكك بأن فكرة "ما بعد العلمانية" هي انعكاس مفيدٌ أو هادف للتطورات المعاصرة، لكن في كل حال فإن ما بعد العلماني لا يعني انتهاء العلمانية بل العلمانية متحررة من الأيديولوجيا.
عربيا: العلمانية أم الديمقراطية؟
فكرة العلمانية في حد ذاتها أكثر تعقيدا، من مجرد كونها مقاربة سياسية للعلاقة بين الدين والسياسة، وتشير إلى نمط ثابت من الحياة تستند إلى مجالات "علمانية" و "دينية" منفصلة وواضحة المعالم في خضم صيرورة العلمنة. مفهوم "العلماني" ذاته مرتبط بالمفهوم المعاكس لـ "الديني". ظهر كلا المصطلحين في أوروبا الغربية خلال العصور الوسطى: مصطلح "دين" استخدم في البداية توصيفا لجماعة الرهبان المسيحيين، أما مصطلح "علماني" (من اللاتينية: saeculum) فأشار إلى العالم خارج هذه المجتمعات الرهبانية. تم بناء المصطلحين منذ البداية على أنهما متناقضان فتم تعريف "العلماني" بشكل أساسي من حيث ما لم يكن؛ الأشياء والأماكن والأفكار التي كانت متميزة عن مجال السلطة الدينية (تشارلز تيلور).
الشكل الدقيق الذي تتخذه العلمانية في أي سياق محدد يتشكل من خلال عدد من العوامل. وتشمل هذه مجموعة من الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية (مثل تكوين وأشكال وتنوع الدين أو الأديان المعنية) بالإضافة إلى السمات المحددة للظروف الوطنية والتاريخية للبلد المعني. في أوروبا الغربية، كان الدافع لتطوير العلمانية مرتبطًا بسلسلة من العمليات التاريخية التي بلغت ذروتها في إنشاء دولة ذات سيادة إقليمية، وصعود القومية، ونمو السيادة الشعبية. كانت الحروب الدينية المزعومة من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر محورية في كثيرٍ من هذا، وكان أحد آثارها إنشاء مجموعة جديدة من الأفكار حول العلاقة بين مصادر السلطة الروحية والزمنية (المنصوص عليها في معاهدات وستفاليا في عام 1648)، منع الحكام من التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. كان هناك تأثير حاسم آخر هو خلق رؤية معينة للدين على أنه يشكل تهديدًا، أو مشكلة يجب حلها (تيلور).
في كل حال، يقودنا هذا الإطار الثنائي للمجالين، العلماني والديني، المتميز والمحدّد بالسياق التاريخي والثقافي المتمركز حول الغرب إلى اعتبار محاولة نقل المصطلح إلى مجتمعات غير غربية تفشل بوضع حدود واضحة بين العلماني والديني، ففي المجتمعات الإسلامية مثلا يخترق الدين مختلف مجالات الحياة، وبينما تحاول المجتمعات الغربية أن تتجاوز ثنائية الدين-العلمانية، ظلت المجتمعات العربية أسيرة لصراع تلك الثنائية، والذي تعمّق بفضل تطرف الفريقين؛ العلمانيين والمتدينين.
التحول الديموقراطي إذا كان مرافقًا لعملية إفقار واسعة ناجمة عن عملية خصخصة لا ترافقها ضمانات اجتماعية واسعة يزيد من اغتراب الجماهير باتجاه تبنّي طروحات التديّن السياسي
ذهب الجابري إلى أن العلمانية تقتضي الفصل بين الدولة والكنيسة، بوصفها تتولى السلطة الروحية في المجتمع؛ وبما أنه لا وجود لمؤسسة دينيةٍ مماثلة للكنيسة في الإسلام، فإن طرح هذا الشعار في مجتمعٍ يدين أهله بالإسلام هو طرحٌ "غير مبرر" و "لا معنى له". فالحاجة إلى الاستقلال عن "الترك" في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب، كانت ولا تزال، مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها، بل ومشروعيتها عندما يُعبَّر عنها بشعار ملتبس كشعار "العلمانية". لذا، يرى ضرورة استبعاد شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري "الديمقراطية" و"العقلانية". لكن المسالة تبدو أكثرا تعقيدا من المسميات. يتفق بشارة مع الجابري على ضرورة التركيز على الحديث عن الديمقراطية، بدلًا من الحديث عن العلمانية، لكن من منطلق مختلف، وهو أن تبلور الثنائية القطبية "علماني/ ديني" يمكن أن يفضي، في سياق الانتقال الديمقراطي، إلى "الاحتراب الأهلي"، بين أنصار طرفين يتماهى كل منهما مع موقفه، إلى درجة تحويله إلى هويةٍ له. وأن ما يؤثر سلبيًا في الديمقراطية هو ليس التعددية الإثنية والطائفية في حد ذاتها، "بل تحوّلها جميعًا إلى سياسات هوية، سواء مر ذلك عبر تسييس الطائفة أم الإثنية، أو قصر التنظيم أو الحزب السياسي على تمثيل ما يدّعي أنه مصالحها، أم عبر تحويل قواعد الأحزاب الأيديولوجية والعقائدية إلى هويات ثقافية وأنماط حياة وتطييف الأحزاب السياسية والأيديولوجيات. الصراع بين الهويات، بحسب بشارة، ليس صراعًا ديمقراطيًّا ولا يساعد على الانتقال الديمقراطي.
في النقاشات العربية احتدّ الجدل حول فصل الدين عن الدولة بُعيد الاستقلال، وتمسّك العلمانيون به وسيلة من وسائل التنوير، إلا أن الحروب الثقافية (في أقل تقدير) التي اندلعت في مواجهة الإسلاميين كانت مكسبا للنظم الحاكمة، وعاملا مساعدا في تغلغل جهاز السلطة في المجتمع وإحكام قبضته على كلا الفريقين، بدل أن يكونا معا في مواجهة استبداد السلطة. وفي مقابل عنف الإسلاميين، كثيرا ما انتهى الأمر بالتنوير العلماني، كما ذهبت إليزابيث س. كسّاب، إلى مفارقة مفادها: الدفاع عن الحرية والتفكير النقدي والديمقراطية، وفي الوقت نفسه منح الدولة المطلقة دعما غير مشروط ضد خطر الإرهاب الإسلاموي، من دون احتراز ضد مخاطر سلطة الدولة التي لا تخضع لأي رقابة، والتي تَبيَّن مدى خطورتها على الحياة والحرية والكرامة.
لا يعارض بشارة من حيث المبدأ مقولة أن الدين، أي دين، صالح لكل زمان، لكنه يرفض تحويلها إلى برنامج سياسي للتطبيق، فالصلاحية لكل زمان ومكان لا تعني صلاحية العلاقة بين الدين والسياسة. لكن بالمقابل فإن التحوّل الديموقراطي إذا كان مرافقًا لعملية إفقار واسعة ناجمة عن عملية خصخصة لا ترافقها ضمانات اجتماعية واسعة فإنه يزيد من اغتراب الجماهير عن عملية التحول الديموقراطي باتجاه تبني طروحات التديّن السياسي، ويقترب التديّن الشعبي من التحول الديموقراطي إذا وجد الناس مصلحة لهم في هذه العملية، عبر إضعاف التحالف بين أنماط التديّن الثلاثة (السياسي والرسمي والشعبي) ضد الحداثة، وضد الديموقراطية. هذا التحالف ليس أبديًا إذ إنه نشأ في ظروف تاريخية محددة، وبالإمكان تفكيكه من دون معاداة أنماط التديّن القائمة منفردة، بل من خلال كسب بعضها لصالح الديموقراطية، وتحييد البعض الآخر لتصبح المعركة السياسية مع القوى المعادية للديموقراطية ممكنة في ظل سيادة القانون تجنبا لحلقة مفرغة من العنف السياسي والاجتماعي.