الردّ الإيراني المنتظر
تكثّفت المعلومات خلال الساعات الماضية عن اقتراب الردّ الإيراني على استهداف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق قبل نحو أسبوعين، ومعها تصاعَدت التحذيرات والتهديدات من عواقب مثل هذا الردّ في حال حصوله، ودخلت أطرافٌ دوليةٌ على الخط في محاولة لاحتواء الموقف، والحدّ من التداعيات المحتملة. ورغم أن الحديث اليوم جدّيٌ أن طهران في طوْر توجيه ضربة مباشرة، وليس عبر وكلاء، إلى إسرائيل، إلا أن الأمر أعقد مما هو ظاهر، وخاضعٌ لحسابات إيرانية كثيرة بالدرجة الأولى، والمرتبطة بمسار الحرب على غزّة، وما يرافقها من تحولات دبلوماسية تجاه العدوان.
لا شك أن إيران اليوم في موقفٍ لا تحسد عليه، داخلياً وخارجياً. فرغم أن استهداف "المستشارين العسكريين الإيرانيين" الموجودين على الأراضي السورية ليس جديداً، وهو بات يحصل بوتيرة شبه أسبوعية، ويوقِع ضحايا كثيرين ومن رتب عالية في الحرس الثوري الإيراني، إلا أن ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق بشكل مباشر موضوعٌ مختلف، إذ يعدّ، وفق الأعراف الدبلوماسية، استهدافاً للأراضي الإيرانية بشكل مباشر، وليس مجرّد اغتيال لقيادات إيرانية في الخارج.
ومنذ ما قبل قصف القنصلية، كانت الأصوات تتعالى داخل الجمهورية الإسلامية، وخصوصاً في أوساط القيادات العسكرية المحافظة، بضرورة القيام بردّ فعلٍ يوقف الضربات المتتالية التي يتعرّض لها القياديون العسكريون الإيرانيون. وترى هذه الأصوات أن الردّ الذي قامت به طهران على اغتيال زعيم فيلق القدس، قاسم سليماني، لم يكن بحجم الحدث الكبير الذي هزّ الجمهورية الإسلامية، وهو ما أوحى بالانكفاء الإيراني وفتح الباب على مزيدٍ من الاغتيالات.
باتت طهران ملزمة بردّ فعلٍ ما، لكنها، في الوقت نفسه، ليست في وارد إشعال حرب إقليمية، وربما عالمية، وخصوصاً مع الدخول الأميركي مجدّداً على الخط، ما أعاد عقارب الموقف الأميركي إلى يوم 7 أكتوبر. فرغم التحوّل في الموقف الأميركي بعد نحو ستة أشهر من العدوان على قطاع غزّة، وظهور خلافات بين الإدارة الأميركية وحكومة بنيامين نتنياهو، إلا أن أي عمل عسكري إيراني سيعيد رصّ الصفوف الأميركية خلف إسرائيل، وهي الرسالة التي أوصلتها واشنطن إلى طهران في الأيام القليلة الماضية. رسالة عبّر عنها الرئيس جو بايدن ومسؤولون أميركيون، ولم تقف عن حدود الكلام عن "الدفاع عن إسرائيل"، بل تخطّتها إلى توجيه "ضرباتٍ انتقاميةٍ مشتركة مع إسرائيل إذا تعرّضت لهجوم من إيران أو وكلائها". يُعيدنا هذا الكلام الأميركي إلى التحشيد الذي قامت به الولايات المتحدة بعد عملية طوفان الأقصى، وإرسالها البوارج وحاملات الطائرات تحسّباً لفتح كل الجبهات ضد إسرائيل، وهو أمرٌ لم يحدُث حينها، لكنه اليوم عاد ليحوم في الأجواء.
إيران معنيّةٌ بردٍّ مضبوط، وربما منسّق، لحفظ ماء الوجه، تماماً كالذي حصل بعد اغتيال سليماني، والذي كشف عن تفاصيله الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبل أشهر خلال حملته الانتخابية. ادّعى ترامب أن الإيرانيين اتصلوا بالولايات المتحدة بعد عملية الاغتيال، وأبلغوها أنهم سيوجّهون ضرباتٍ إلى قاعدة عسكرية أميركية في العراق، وأنهم سيُخطئون الاستهداف عن قصد، وطلبوا عدم الردّ على الهجوم الإيراني. ولم ينفٍ كلام ترامب أيٌّ من المسؤولين الإيرانيين، الذين يبدو أنهم يسيرون وفق النهج نفسه حالياً في تحضير الردّ على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق. وقد تكون جولة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أخيرا، على دول المنطقة، ومنها سلطنة عُمان، في هذا الاتجاه. والمعلوم أن السلطنة لعبت في فترات متعدّدة دور الوسيط بين واشنطن وطهران، ونقلت رسائل بين الجانبين، سواء في ما يتعلّق بالملف النووي الإيراني أو بملفّات أخرى ضالعة فيها طهران، وفي مقدّمتها الحرب في اليمن.
خيارات الرد الإيراني، وفق الحسابات المضبوطة هذه، ليست واسعة، وقد تقتصر على تنفيذ عمليةٍ ضد إحدى المنشآت الدبلوماسية الإسرائيلية في الخارج، من دون إيقاع خسائر كبيرة تورّط إيران في حرب واسعة.