السحر المغربي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
لم يخرُج المغرب من مونديال قطر، بل ظل صامداً حتى النهاية، مرافقاً الفرق الكبيرة. وهو في كلّ مباراة ينتصر فيها يقدم صوراً جديدة، أبرزها صور الأمهات. كتب لي صديق عندما أخبرته أنّ أحد المذيعين تحسّنت عربيته بسبب المنتخب المغربي: "المغرب يُحسّن اللغة والأخلاق والأذواق والوعي يا صديقي". كأنما صورة الأمهات جعلت من مونديال قطر مونديال أمهات. كتب مرّة أستاذ الفلسفة المغربي، عبد السلام بنعبد العالي، أنّ "المهاجر ليس له غير أمه، من لا وطن له أمه هي الوطن".
من الصور المهمة كذلك الصمود الكبير للفريق المغربي وإصراره على التفوّق، فهو تفوّق أولاً في مجموعته وجعل مرماه خالياً تقريباً من الأهداف، أمام فرق كبيرة. ثم سطّر إنجازات جعلت شعوب الوطن العربي تهلّل باسمه وتغني كذلك. جعلت كل بيت معلقاً بالأمل، وظل الأمل صامداً حتى في المباراة ضد فرنسا، ثم كرواتيا، إذ إنّ أربعة أساسيين بسبب الإصابة الشديدة لم يشاركوا، وحتى ضمن المشاركين هناك مصابون. وهذا يعني أنّهم أبلوا بلاء قتالياً في مباريات بلجيكا وإسبانيا والبرتغال وما قبلها، ثم جاءوا بفريق جريح، وهذا شيء خارق يُحترم.
على الرغم من تلك الخسارة، نستطيع القول إنّ المنتخب المغربي كان مسيطراً على مجريات اللعب، بعد أن غافله الهدف الأول في كل من المباراتين الأخيرتين، وكأنّ الهدفين ما جاءا إلا لإشعال قدرات الفريق، من أجل أن يعرّفنا أكثر على مواهبه، رغم التعب والجراح، التي لم تكن دفينةً طوال مبارياته في مونديال قطر الذي كان فيه الفريق المغربي الواجهة، ليس بنتائجه الطيبة فحسب، إنما أيضاً بتلك الصور الجميلة التي رافقته، وتقدّمتها صورة الأمهات مع اللاعبين. وصور أخرى تتعلق برفع العلم الفلسطيني في معظم المباريات، مذكّرين العالم المتحضّر بأن ثمّة قضية كبيرة لا يمكن أن تُنسى بالتقادم، بطلها شعب جرى احتلال أرضه وتهجيره وما زال ينتظر أن ينال حقوقه الموعودة.
ولأنّ المغاربة روحانيون بطبعهم، لم تقتصر الصور عند صور الأمهات، يمكن أن نضيف كذلك صورة اللاعبين يسجدون جماعياً شكراً لله على الفوز، ما حدا بتسميتهم منتخب الساجدين... من يعيش بين المغاربة يلاحظ بسهولة هذه الروحانية الفائضة في سلوكهم، خصوصاً وسط الأسر. في حين يتمنّى شباب كثيرون زيارة أوروبا من أجل العمل وتغيير الحياة، يتمنّى الكبار زيارة مكة. وما انتشار أضرحة الأولياء إلا تعبير عن هذه الروح، ومن يجد في نفسه القدرة، لا يكتفي بالذهاب إلى الحج، بل إنه يذهب إلى مكّة في غير تلك الأوقات. أتذكّر جارة وقريبة لنا تسمّى الحاجة الفاسية، احتلّ لقب الحاجة اسمَها ولم تعرف إلا به، وهي التي ذهبت مراراً إلى مكة بعد حجّتها الأولى، حين كانت تراني تحدّثني عن رحلاتها الكثيرة إلى مكة، وكأنما عاشت تجمع المال لهذا الأمر وحده، بمساعدة أبنائها وعقار سكني ورثته عن زوجها. رحلت الحاجة الفاسية، ويصعب عليّ نسيانها بارتدائها الجلباب الأبيض وسحنتها البيضاء ونطقها الراء الأندلسية ولطفها الظاهر من محياها الباسم دائماً، وطريقتها في نثر الطرائف. يشعر كل من يجالسها وكأنه بجانب امرأة تنتمي لزمن من أزمان الأندلس المفقودة.
"الله يرحم الوالدين" هو الدعاء الغالب في المحيط الاجتماعي في المغرب، يقدّم عادة في لحظات الرضى، خصوصاً من كبار السن. لذلك، ليس وجود أمهات اللاعبين المغاربة في الملاعب غريباً إذا عرفنا قوة حضور الأم التي تسمّى "الوالدة" تكريماً. تقول الأغنية "توحشتك يا الوالدة وانت في بلاد بعيدة". اليتيم هو من يفقد أمه، وإذا كان حضور الأم طاغياً في الرواية الروسية كما لاحظنا، فإنّ حضورها طاغ كذلك في الحياة المغربية، يمكن تلمس ذلك بسهولة: يضيّفك الصديق في بيته ليس لتحتسي الأتاي والشيبة فقط، إنما أيضاً لكي يعرّفك على أمّه.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية