السودان .. الشعب يصارع الأوليغارشية
مسيرات غير مسبوقة خرجت في المدن السودانية الكبرى، الأحد الماضي، في ذكرى ثورة 19 ديسمبر. وقد وصل طوفان الجماهير في العاصمة الخرطوم إلى القصر الجمهوري ودخلت باحته من دون اقتحام مرافقه. ووفقا لكثيرين، فقد آثر منظّمو المسيرة الاكتفاء بالرسالة القوية التي أكّدت أن الإرادة الشعبية قد انتصرت، وألحقت هزيمة مدوية بقائد الجيش عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة عبدالله حمدوك والانقلابيين، من دون مساس بالقصر، باعتباره رمزا لسيادة الدولة. ولكن أسئلة كثيرة ظلت تطرح في كل مرّة تخرُج فيها الجماهير مزلزلة الأرض تحت أقدام العسكريين من مجموعة اللجنة الأمنية للرئيس السابق عمر البشير، وأهم هذه الأسئلة بسيط وعميق: ثم ماذا بعد؟ ما العمل؟
مؤكّد أن الحراك الشعبي الثوري قد بات بعضا من تفاصيل الحياة اليومية للشارع السوداني، والمؤكّد أيضا أن هناك تقدّما وتطوّرا في عمل لجان المقاومة التي تقود عملية تنظيم الحراك وقيادته من الشباب على امتداد السودان تقريبا، فكل مدينة ولها لجانها التي تحشّد وتنظم وتقود، بيد أن المحصلة حركة أفقية، على الرغم من اقتناع الشباب والتفاف غالبية المجتمع من حولهم بمختلف فئاته، لكنها تظل عاجزةً عن إفراز قيادة شبابية متفق عليها لقيادة الحراك. الافتقار لمثل هذه القيادة السياسية الشبابية الواعية يتفق عليها، وهي ما يعيق عمليا بلوغ الحراك الشعبي أهدافه في الحكم المدني. أصبح هذا الغياب إحدى السلبيات الكبيرة التي تجعل من الحراك تائها وبعيدا عن أهدافه بكل ما يحيط بذلك من مخاوف من انصراف الناس وهزيمة الثورة، لكن اللافت أن زخم الشارع السوداني يتجاوز التوقعات في كل مرّةٍ يخرج فيها الناس، وبأعدادٍ تفوق سابقاتها، وبثبات ويقين بحتمية انتصار الثورة وتحقيق أهدافها. والثابت أن العسكريين قد سجّلوا نقاطا مهمة طوال الفترة الماضية على الشقّ المدني في الحكم، منتزعين مزيدا من صلاحيات الحكومة التنفيذية بقيادة عبدالله حمدوك، على الرغم من مفارقة ذلك لصلاحياتهم بالمطلق.
لفهم ما يجري في السودان، لا بد من الأخذ في الاعتبار المتغيرات السياسية التي نجمت عن سيطرة نظام الإخوان المسلمين الطويلة على مفاصل الحكم
ولفهم ما يجري في السودان، لا بد من الأخذ في الاعتبار المتغيرات السياسية التي نجمت عن سيطرة نظام الإخوان المسلمين الطويلة على مفاصل الحكم. أولا: كان المقدّم عند الجماعة القضاء على كل أشكال الأحزاب السياسية والحركة النقابية وإقامة نظام اسلامي متوّهم. ولذا، حينما انتصرت ثورة الشباب، تم ذلك بعيدا عن تأثيرات الجاذبية الحزبية، ولم يعجمها الإرث التاريخي للحركة النقابية السودانية. وقد جعل هذا الانقطاع السياسي في مجرى الثورة حراك نهر الثورة الجارف ينتهي إلى سهل منبسط، بلا حاضنة سياسية أو نقابية، فطبع الحراك بشكله الأفقي. ثانيا: أفول بريق الأحزاب الطائفية، الأمة والاتحادي بشكل خاص، وتحوّلهما إلى مجموعة متعدّدة من الأحزاب أضعف حضورها التقليدي في الحياة السياسية. ولهذا التشظّي سلبياته من حيث إضعاف الوجه التعدّدي للحكم باعتبار أهمية وجود بنية حزبية قوية وثابتة للحكم. كما كان له أيضا إيجابياته، إذ في بعدها عن المسرح السياسي فُتح الباب أمام القوى الحديثة لأول مرة إمكانية إيجاد واقع جديد يتسق وتطلعات الشباب في تغيير جذري.
الأمر الثالث وهو الأهم، أن العقود الثلاثة من حكم الإخوان المسلمين قلبت الأوضاع في السودان ودمرت مفاصل الدولة، فطاول التدمير الممنهج الخدمة المدنية، ومعه تدمير أشد بإخراج رأس المال التقليدي من السوق، واستبداله بطبقة طفيلية يتزّعمها الإسلاميون، استفادت من حالة دمج الحزب بالدولة، فأثرت وراكمت الثروات. ودعمها الحزب بخصخصة عديد من مؤسسات القطاع العام ومرافقه لصالح العضوية المتنفذة من الحركة الإسلامية. وفي الواقع، اعتمدت الجبهة القومية الإسلامية منهج شراء العضوية بالمال مبكرا من أيام الرئيس جعفر نميري، مستفيدة من تمويلاتٍ قدّمها بنك فيصل الإسلامي، فانضمت شرائح من كبار ضباط القوات المسلحة إلى الجبهة القومية، ومعهم مجموعات كبيرة من الرأسمال الطفيلي الناشئ منذ نهاية السبعينات. كانت هذه المجموعات العسكرية التي انضمّت مبكرا وراء التمدّد السرطاني للفساد داخل الجيش، ثم التحمت مصالحها مع المجموعات المدنية من عضوية الجبهة الإسلامية، فأصبحت تشكل طبقة أوليغارشية حديثة في السودان. وإذا كان التعريف الشائع لطبقة الأوليغارشية بأنها: "مجموعة قليلة من الناس تحكم دولة أو منظمة". أو وفق قاموس Merriam بأنها "الحكومة التي تتألف من مجموعة صغيرة تحكم الناس لأغراض فاسدة وأنانية"، فإن ما يعيشه السودان هو بالضبط حالة يمتزج فيها الفساد المالي بقوة السلاح من مجموعات صغيرة تسيطر على الشركات العسكرية، وتعمل في استخراج الذهب وتجارته، واحتكار تصدير ثروات البلاد. وعلى هذا، نشأ تحالف واسع عقب الثورة، يجمعه الفساد واحتكار تجارة الصادر والوارد، ويجد غطاء آمنا له في الرئيس عبد الفتاح البرهان ونائبه حميدتي واللجنة الأمنية، ثم انضمت إليهم مجموعات من حركات دارفور المسلّحة بعد اتفاقية جوبا، فأصبحت تشكل تحالفا سياسيا فضفاضا، تؤلفه المصالح المشتركة.
الافتقار لقيادة سياسية شبابية واعية يتفق عليها، وهي ما يعيق عمليا بلوغ الحراك الشعبي أهدافه في الحكم المدني
ولذلك يحرص البرهان دوما على التأكيد على نقطتين هامتين لهذا التحالف: التأكيد على القطيعة التامة مع حزب المؤتمر الوطني، بحيث لا يشمل هذا الزعم المراوغ عضوية هذا التحالف الأوليغارشي من الإخوان المسلمين، ثم الحديث عن الانتخابات مخرجا سريعا من الأزمة يضمن للتحالف الفوز بالمال، مع إغفالٍ متعمّد لمطالب الشارع في التغيير الجذري والدولة المدنية. وإذا ما تمعنّا في مكونات هذا التحالف، نجد أن بعضا من الأحزاب والكيانات في قوى الحرية والتغيير قد ارتكبت خطأ فادحا بدعمها الشراكة مع العسكر، وضمنت مكانهم في الفترة الانتقالية، ولا تزال تتمسّك بالشراكة تحت زعم حقن الدماء.
وخلاصة الأمر، الحراك الشعبي معني بإعادة ترتيب أوضاعه سريعا وتقديم قيادة جديرة بالمضي لتسلم السلطة المدنية الخالصة، وبدونها سوف يصعب إيجاد مخرج من هذا السجال الذي يصبح مع مرور الوقت أزمة ستعصف بالجميع، إذ إن للسياسة أحكامهما إذ تأبى الفراغ.