السودان: خلط المفاهيم في حروب السياسيين
يُجمع المراقبون على أن الحرب التي تدور في السودان منذ 15 أبريل/ نيسان الماضي تختلف كثيراً عن كل الحروب التي شهدتها البلاد من قبل، ليس فقط لأنها أضحت تهدّد بقاء الدولة السودانية نفسها، أو لأنها الحرب الطويلة الوحيدة التي شهدتها العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث منذ الاستقلال، وإنما أيضاً لطبيعتها الهجينة ويومياتها وأشكال التعبئة السياسية التي رافقتها.
لقد شهد السودان سلسلة من حركات التمرّد، حتى من قبل أن ينال استقلاله، قامت أساساً على أسس مطلبية، تتصل بما يقول قادتها إنها حقوق مهدرة لحواضنهم الاجتماعية. وشهد كذلك محاولات للاستيلاء على السلطة في المركز بقوة السلاح من مجموعات سياسية سودانية استقطبت عدة ضباط في الجيش، وأخرى تحرّكت بآلياتها العسكرية من أطراف السودان أو حتى من خارجه. من ذلك، على سبيل المثال، تمرّد توريت في أغسطس/ آب 1955 وحركة الانيانيا الأولى في 1963 والأنيانيا الثانية في 1977 والحركة الشعبية في 1983 وتمرّد دارفور في 2003. ونذكر كذلك انقلاب هاشم العطا في يوليو/ تموز 1971 وحركة الجبهة الوطنية في يوليو / تموز 1976، وعملية الأمطار الغزيرة في 1997، وانقلاب رمضان 1990، وعملية "الذراع الطويلة" في 2008. وقد تأتَّى لبعض هذه المحاولات أن تستولي على الخرطوم عدة أيام، كما في حالة إنقلاب هاشم العطا وحركة محمد نور سعد (الجبهة الوطنية)، لكن الجيش سرعان ما استعاد زمام المبادرة، وألحق بها الهزيمة.
جميع هذه المحاولات، سواء التي استهدفت الخرطوم، للاستيلاء على السلطة المركزية، أو التي انحصر نشاطها العسكري في مناطق وجود حواضنها الاجتماعية بقصد "تحرير" بعض المناطق، وجعلها مناطق سيطرة ونفوذ لها حتى يُستجاب لمطالبها، جميعها كانت تجعل من رموز السلطة والدولة، كالحاميات العسكرية ومراكز الشرطة، أهدافاً حربية لها، بقصد الاستيلاء عليها. وكانت تلك الحاميات تتصدّى للهجمات وتهاجم أحياناً لاسترداد مواقع ومدن استولى عليها المتمرّدون. لكن لا المرافق المدنية، عامة أو خاصّة، ولا المدنيون أنفسهم ومساكنهم وممتلكاتهم الخاصة، كانت، طوال 68 عاماً، هدفا مباسراً لأي جماعة حملت السلاح في وجه السلطة المركزية، بما في ذلك الحرب في جنوب السودان التي استمرّت نحو 31 عاماً، على فترتين.
كانت حرب "الدعم السريع" هذه المرّة موجهة، في جانب أساسي منها، ضد المدنيين، واستهدفتهم بالقتل والترويع والتشريد، والاستيلاء على ممتلكاتهم ومدّخراتهم
ومن المهم هنا أن نثبت أيضاً أن جميع تجارب حمل السلاح في وجه السلطة المركزية أو للاستيلاء عليها كلياً، كانت وراءها دوافع سياسية وسياسيون، وقد اتصلت، عند منشئها أو في مرحلة لاحقة، بقدر من السند والدعم الخارجيين، يتفاوت بين تجربةٍ وأخرى. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الشعارات التي رفعتها المجموعات التي حملت السلاح في وجه السلطة المركزية خلال العقود الماضية، الثابت أن المنشآت المدنية والمدنيين أنفسهم لم يكونوا أهدافاً مباشرين للأطراف المتحاربة، فيما عدا حالات شاذّة حدثت في حرب دارفور مطلع القرن الحالي.
نحن، إذن، أمام تجربتين "فريدتين" شهدهما السودان في خلال الأعوام الأربعة الماضية، هما تجربة التوسّل إلى "التحوّل الديمقراطي" بواسطة القوى العسكرية، وهي تجربة تملك حقّ ملكيتها مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، وتجربة محاولة الاستيلاء على السلطة بواسطة العمل المسلح، والتي تستهدف المدنيين عمداً، فيشكّلون غالب ضحاياها، وهي تجربة الحرب الحالية التي تخوضها قوات الدعم السريع.
كانت حرب "الدعم السريع" هذه المرّة موجهة، في جانب أساسي منها، ضد المدنيين، واستهدفتهم بالقتل والترويع والتشريد، والاستيلاء على ممتلكاتهم ومدّخراتهم، وتعطيل مؤسّسات الخدمة العامة والخدمات، وتخريب (ونهب) المؤسسات الخاصة من بنوك ومصانع وشركات. ولم تتوقف عند هذا الحد، وإنما ذهب المتمرّدون أبعد من ذلك، فجعلوا بيوت المواطنين ومزارعهم مكاناً لسكنهم وإقامتهم، تماماً كما يفعل المستوطنون في فلسطين المحتلة. ولأول مرة في تاريخ الحروب في السودان يتم اعتبار الأملاك الخاصة غنائم، ويتم "سبي" النساء واسترقاقهن جنسياً!
هذا السلوك البدائي والمتوحش، كانت تقف وراءه أشكال متعدّدة من الدعاية السوداء والأطماع السياسية، تشترك في بثها وستتحمل نتائجها مجموعات سياسية داخلية، ودول إقليمية، يعتقد جميعهم أنه لا سبيل لبسط نفوذهم في السودان إلا بتفكيك المؤسّسات الصلبة للدولة (دولة 1956) وتقسيم ورثتها على أبنائها بالتبنّي.
لأول مرة في تاريخ الحروب في السودان يتم اعتبار الأملاك الخاصة غنائم، ويتم "سبي" النساء واسترقاقهن جنسياً!
دعاية سوداء لأن مَن صمّموا محتواها حشدوا لها المتناقضات، فهي، بالنسبة للمقاتلين، حرب الغنائم والسبايا، يغنمون فيها الأموال النقدية والذهب والسيارات والأثاثات، ويعودون بما استرقّوا من البنات إلى أماكنهم وإقامتهم! وهي، بالنسبة لأصحاب المطامع السياسية، حربٌ تجمع بين عدة متناقضات، فهي ضد دولة 1956، وضد أهل الشريط النيلي، وضد الفلول و"الكيزان" (الإسلاميين)، ولاستعادة الحكم المدني والديمقراطية اللذين كان سيجلبهما الاتفاق الإطاري، الذي صُمم أساسا ليمنح السلطة على طبق من ذهب لمدنيين غير منتخبين. وهي، بالنسبة لرعاتها الإقليميين، حربٌ لترسيخ أحد النموذجين، الليبي أو اليمني، أو كليهما، لتجعل من السودان دولة ممزّقة الأوصال، تتحكّم فيها المليشيات المسلحة التي تفرض سيطرتها على مناطق نفوذ مختارة، إما لموقعها الجغرافي المميز أو لغناها بالثروة الحيوانية والزراعية أو بالثروة المعدنية، وليسهل بعد ذلك نهب هذه الثروات والتحكّم في الطرق والممرات المائية.
المشكلة في السودان أن بعض القوى السياسية التي تدّعي التمسّك بالمدنيّة والديمقراطية تتبنّى مناصرة زعماء هذه الحرب، وتساهم في ترويج دعايتهم السوداء ومزاعمهم المتناقضة، وتغضّ الطرف عن سلوكهم المشين الذي لا يشبه إلا سلوك القرون الوسطى أو مرتزقة العصابات الدولية التي تعمل في تجارة الأسلحة والمخدّرات، وتصرّ على أن كل مَن يقف في وجه هذا السلوك الهمجي، هو صاحب طموح سلطوي، وضد الحكم المدني!
وهكذا، نجد أن المفاهيم والكلمات نفسها تتعرّض للسطو، وحشوها بما يناقض المعنى الذي على أساسه جرى اشتقاقها، مثلما تعرضت ممتلكات الناس الخاصة للسطو والنهب.