السودان: لا للحرب ولكن ما البديل؟
حظيت كلمة رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، باهتمام واسع بين السودانيين. كانت مشاعر الزهو غالبة، وبدا وكأن الجميع تناسوا خلافاتهم القديمة، ليصبح لديهم هدف وحيد، وهو القضاء على تلك المليشيا التي عاثت في البلاد فسادًا.
لم يعد للتحفظات القديمة على الجيش السوداني والمطالبات بتفكيكه مكان، فيكفي أن يفكر السودانيون بمصيرهم فيما إذا كانوا بلا خطوط دفاع، أو إذا ما كانت مهمّة السيطرة على الخرطوم سهلة، كما كان المتمرّدون يتوقعون.
يستعيد هذا الجيش صورته حاميا للبلاد، بعد سنوات من التشويه المتعمّد، ليمارس مهامه مسنوداً من الملايين، الذين لم يبخلوا عليه بأي شيء، ابتداء من إعلان جاهزيتهم للتطوّع والقتال ونهاية بالدعاء والدعم المادي والعيني.
تغيّرت أشياء كثيرة بعد الحرب. أغلب المثقفين والشخصيات العامة، من الذين عرفوا بانتقادهم للمؤسّسة العسكرية وقادتها، أصبحوا من دعاة الاتحاد خلف الجيش، قائلين إن البديل عنه هو حكم المليشيا، وهذا لا يوجد ما هو أسوأ منه. بات أهالي الخرطوم قادرين على فهم ما يعنيه ذلك، بعدما رأوا بأم أعينهم كيف يستهتر قادة ومجنّدو ما كانت تعرف سابقاً "قوات الدعم السريع" بحياة البشر، وكيف أنهم لا يتورّعون عن قتل أو أسر أو تعذيب أي شخص، لمجرّد الشك أو الارتياب.
المعركة اليوم في السودان بين الشعب السوداني والمليشيا التي تريد اختطاف الدولة
ما يقال عن الجيش يمكن أن يقال عن قائده البرهان، الذي التف السودانيون حوله، بعدما وضعته الأحداث في مقابل محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ما جعل خيارات الناس واضحة، وجعل جميع التحفّظات السابقة، من قبيل الاتهام بقربه من نظام البشير، تبدو بلا وزن.
في وقت أصبحت فيه قوات دقلو وقيادتها خاضعة لاتهامات دولية بممارسة انتهاكات واضحة وتنفيذ جرائم حرب متنوّعة، يصرّ بعضهم، عن سوء نية أو جهل، على وصف الأمر بأنه معركة بين رجلين، ما يوحي بوجود حالة من الانقسام. الحقيقة، التي يدركها أي متابع، أن المعركة بين الشعب السوداني والمليشيا التي تريد اختطاف الدولة. الدليل على صحة ذلك أنه، فيما يمكنك أن تعدّد فيه أسماء لا تحصى من داعمي الجيش في معركته الهادفة إلى تحرير الخرطوم، فإنك لا تكاد تجد اسماً إعلامياً أو ثقافياً أو أكاديمياً سودانياً محترماً قادراً على الخروج على العلن وإعلان دعمه الصريح مشروع "الدعم السريع". الحال مشابه بالنسبة لرجال الدين وخطباء الجمعة، الذين لم نسمع أن أحدًا منهم أنهى خطبته يومًا بالدعاء لنصر دقلو أو لانهزام الجيش، الذي يسمّى في خطابات المليشيا التي أنشأها البشير، جيش الفلول.
لم يعد للتحفظات القديمة على الجيش السوداني والمطالبات بتفكيكه مكان
يمتدّ الأمر أيضاً إلى السياسيين المتهمين بالولاء لحميدتي. الأسماء المعروفة، ممن بات يطلق عليهم اسم "الجناح السياسي للدعم السريع"، بسبب اجتهادهم في تبرئته أو في تمييع الواقع بالحديث عن جرائم مشتركة ومرتكبة من "طرفي النزاع"، تستحي من أن تواجه الشعب السوداني بحقيقة موقفها الذي كان يراهن على انتصار المليشيا، أملاً في تقاسم السلطة التي لا يمكن أن توصلهم إليها أي انتخابات.
"لا للحرب" شعار جميل، لكنه مثير للتساؤل والشك، خصوصا حين تعلم أن كثيرين من أنصار المليشيا يرفعونه في وجه المترقبين لانتصار الجيش، للسخرية منهم وإظهارهم أنهم فريق مهووس بالحرب والقتل والتدمير، ولا يرغب سوى في استمرار حالة الفوضى إلى ما لا نهاية. ويعلم رافعو هذا الشعار المضلل أن لا أحد عاقلاً يحب الحرب، كما يعلمون أن كل السودانيين، وهذا يشمل من كانوا خارج البلاد أيضًا، متضرّرون، من امتداد رقعة الدمار. بل يعلمون كذلك أن أغلب المتحمّسين للقضاء على "الجنجويد"، الذين دمّروا الأخضر واليابس، ليسوا المغتربين في الخارج، بل هم أغلب أهل الخرطوم، الذين فقدوا في الأشهر الماضية كثيرين من الأحبة والأموال والممتلكات، والذين اضطرّت أعداد كبيرة منهم للنزوح واللجوء، بسبب هذه الأحداث. هذا كله يجعل الضحايا والمظلومين لا يفكّرون إلا بضرورة أن يأخذ كل من أجرم في حقهم جزاءه.
ظلت المليشيا ترفض شرطاً بديهياً، الخروج من بيوت الناس والمرافق العامة والمستشفيات
في كل نقاش مع الجماعة المتواطئة مع المتمرّدين تحت ذريعة "رفض الحرب" كان سؤال بسيط يتردّد عن البديل، الذي يمكن بواسطته وقف المأساة واستعادة الحقوق. لم يجد هذا السؤال أي إجابة خلال الشهور الماضية سوى تكرار الحديث عن أضرار الحرب وبشاعتها، وأنها يجب أن تتوقف. في الحوارات التلفزيونية مع داعمي المليشيا، كان الجميع ينتظر الإجابة عن كيفية إنهاء الحرب وطرق دفع القوات الوافدة إلى إعلان الاستسلام والخروج من حياة الناس، لكن النقاش كان يتم توجيهه إلى قضايا أخرى، من قبيل السؤال عمن بدأ الحرب وعن دور "الفلول" في إشعالها. كل تلك كانت موضوعات تطرح بهدف التهرّب من مواجهة العقدة الرئيسة: ما البديل عن الحرب لإنهاء الفوضى والدمار الحالي؟
تدور كلمة "تفاوض" في أذهان بعضهم حلا، وهذا يعني أنهم يشبهون الصراع الحالي بصراعات أخرى، دخلت فيها الحكومة المركزية، وانتهت بالحوار أو بتقاسم السلطة، كحرب الجنوب أو كالحروب ضد جماعات إقليم دارفور المتمرّدة. ما يجب أن يدركه هؤلاء أن الأمر هذه المرّة مختلف، فحروب السودان الممتدة منذ الاستقلال، وعلى ما فيها من مآس، كانت تُخاض بشرف كبير، باستثناء انتهاكات الجنجويد الشاذّة في دارفور، والتي كان يصعب على كثيرين تصديق حدوثها، لولا تكرارها اليوم بشكل جديد. استيعاب هذا الاختلاف يجعل من مقترحات العودة إلى تقاسم السلطة مع مجموعات متفلتة ومتهمة بمجازر واغتصابات أمرًا غير واقعي.
مع ذلك، لم يأت رفض مبدأ التفاوض من الوفد الحكومي، بل من المليشيا، التي ظلت ترفض شرطًا بديهيًا وبسيطًا، الخروج من بيوت الناس ومن المرافق العامة والمستشفيات.